من معاني الحقيقة أنها ارتباط السبب بالنتيجة بطريقة قطعية، بشكل مطرد وثابت، يطابق الواقع، وعليها دليل، وانطلاقاً من هذا فالحقائق التي سنذكرها هنا ستكون على شقين: سلوك للمربي، ونتيجة عند المتربي، بشكل مطرد وثابت ومطابق للواقع - تقريباً -، وهي نقاط وصلت إليها بعد قراءات واطلاعات وتجارب متعددة، ضيعت وقتي وجهدي في الوصول إلى نتائج مختلفة.. لكن كلمة الفصل كانت للواقع!

هنا..

- سنتكلم عن الأبناء تحت سن المراهقة.

- سنتكلم عن واقع، لا عن تنظير، هناك شيء نريده ونتمناه لأبنائنا، وهناك شيء يفرض نفسه واقعاً، نريد أن نعيَه ونتعامل معه.

- سنتكلم عن عينة من الحقائق لا عن كلها، بوقفات سريعة، ونرتب أفكاراً يعرفها الكثير من المربين، وفي الوقوف عندها مزيد توكيد، وإن الذكرى تنفع المؤمنين.  

 

أولاً- ابنك لن يفهم من أول مرة:

ابنك لن يفهم من أول مرة

 

هو هكذا، والتربية ليست أوامر رقمية يتم تنفيذها بضغطة زر، أما جملة "قلت لك ألف مرة أن تفعل!" أو "أن لا تفعل" فعليك أن تحذفها من قاموسك.. وإلا فسوف تعذّبك وترفع ضغطك كلما تذكّرتها.

التربية عملية تراكمية، والتدرج أحد الأبجديات التربوية ، التربية تدريب، يستند إلى تكوين عادات الطفل قبل أن يستند إلى عقل واستيعاب الطفل.

 

ثانياً- أبناءك لن يخفضوا أصواتهم ولن يتحكموا بحركاتهم كالكبار.

 

الأبناء مختلفون، الهادئ هادئ، أما التلقائي ذو النبرة العالية فلا تضيع وقتك معه بذلك الأمر الأحمق (أخفض صوتك)، سيستمع لك لحظة عندما تزمجر، ثم سيعود إلى طبيعته وسجيته، بل كما تقول القاعدة: (السلوك الذي يُنتبه إليه ينمو ويتكرر).

 

والحركة لدى الطفل - أيضاً - مثل الصوت، هي جزء طبيعي في الولد..

فلا تنتظر منه وقار الكبار وهدوء العقلاء وتقدير المواقف...

لا تنتظر منه أن لا يقطع لك سلسلة أفكارك أو يقاطع حديثك

لا تنتظر منه أن لا يجعل كبدك يتقطع فزعاً عليه وهو يمارس مخاطراته ويتبع فضوله بغير تقدير.

لا تنتظر منه أن ينظر يميناً وشمالاً قبل أن ينطلق راكضاً نحو ما يريد..

لا تنتظر منه أن يبادر إلى الدخول إلى الحمام بمجرد شعوره بالاحتياج، سيترك نفسه لآخر لحظة، ثم يستعجل من هو بالحمام حتى يدخل مكانه..

هو هكذا، قد تقول بعض الأطفال ليسوا كذلك، نعم؛ لأن طبيعتهم النفسية ليست كذلك، فلا تحاول أن تغير طبيعة أولادك، اعتمد مبدأ التنمية والتطوير بدل التغيير.

إذا كان هذا يزعجك، فينفع أن تبرمج نفسك في كثير من الأحيان على أنك لست موجوداً، وكأنك لست هنا.. اتركهم على راحتهم.

 

ثالثاً- أواني البيت، ثياب الأولاد، جدران البيت... جزء من عالم أولادك وألعابهم

 

 

سيلعبون بها، سيكتبون عليها، سيتجاذبونها بينهم، سيجربون تمزيقها وتكسيرها وتشويهها... سيستمتعون برؤية تأثيرهم في الأشياء التي تحيط بهم، سيتبعون فضولهم لمعرفة ماذا في الداخل.. الأمر كذلك للأسف..

وهنا أقول: ابنك أهم من أشيائه، وأهم من كل أشياء البيت، فاسمح له بمساحة من التجريب غير الخطر، رافقه في فضوله قدر الإمكان.

 

قد يهمك: (اقتراحات للأسرة في زمن كورونا).

 

رابعاً- إن لم تكن مربياً، فتوقف عن تخريب ابنك وحسب!

 

بعض الآباء والأمهات يكون شرّهم على أبنائهم أكبر من نفعهم.. صحيح أنهم يغذونهم، يطعمونهم، يدرّسونهم، يلبسونهم.. لكنهم السبب الوحيد في كل عقدهم النفسية، التي تنعكس على وضعيتهم النفسية والذهنية والاجتماعية والدراسية... 

وسأضرب أمثلة للتوضيح:

إذا كنت من النوع الغضبي أو العصبي، أو كنت من النوع المنظم الهادئ المرتب.. وأكرمك الله بأولاد عدّة، ولم تباعد بين الحمول، فإن لم تجد نفسك تأخذ دورك التربوي بشكل صحيح غالباً فأن تحاول الابتعاد عنهم أفضل ألف مرة من أن تبقى عليهم رقيباً تعدّ أنفاسهم، حاول عندها أن تعزل نفسك عنهم وتترك لهم فسحة يعيشوا فيها مرتاحين كما يحلو لهم، هذا بيتهم، وحقهم أن يعيشوا فيه كما يرتاحوا، إن لم يعجبك ذلك فأعظم الله أجرك في تربية أولادك..

حين تجد نفسك في بيتك كأستاذ مدرسة يتآمر عليك طلابك ويستمتعون بخروجك عن مجال التغطية ويتندرون بتلك المواقف فيما بينهم ويصفون لك عروقك المنتفخة وعيونك المحمرّة بعد هدوئك.. عندها ستقول ليتني وليتني..

إن لم تستطع هذا ولا هذا فعلى الأقل حاول أن لا تؤذهم بصراخك أو بعصاك وكثرة انتقاداتك واوامرك ونواهيك..

مالالا يوسف زاي، باكستانية من مواليد 1997، هي ناشِطَة باكستانية في مَجال تعليم الإناث، وأصغر حاصلة على جائزة نوبل على الإطلاق.

يقول ضياء الدين يوسف زاي والد ملالا: (لا تسألوني عما فعلت لها، اسألوني ما الذي لم أفعل! أنا لم أقص أجنحتها هذا كل ما في الأمر).

نيل ديغراس تايسون الفيزيائي الشهير والعالم الفلكي، يتحدّث في أحد مقاطع "Big think" عن كيفية تثقيف الأطفال ودفعهم للعلم. فيقول: (بكل بساطة، ابتعدوا عن طريقهم).

وأنا أقول باختصار: تصرف معهم كما تحب أن يتصرفوا مع أبنائهم!

 

خامساً- الألعاب مصنوعة لكي تُكسر..

 

تذكر ذلك جيداً قبل أن تشتريَها، حاول أن تقدّر عمرها الافتراضي بين أيدي أبنائك الناعمة قبل أن تدفع ثمنها.. لا تنتظر منهم أبداً أن يحافظوا عليها ويتفهّموا أنك قدّمتَ شراءها على دفع فواتير الكهرباء.. إنهم سينفذون فيها عملية فكّ وتركيب وكسر وتفتيت وتلصيق... بأسرع مما تتخيل!

الأطفال يكبرون باللعب، فحاول إدارة هذه العملية، فإن كنت تريد لألعاب أبنائك عمراً أطول فبمجرد أن يبدؤوا بأذية اللعبة اسحبها منهم، وخبئها عنهم حتى حين، بشرط: أن تؤمن لهم البديل الذي يملأ وقتهم بما ينفع. 

 

قد يهمك: (التربية الفنية والجمالية)

 

سادساً- ابنك سيختلف عنك أكثر مما يشبهك!

 

فلا تفرح كثيراً إذا كان ابنك يشبهك في بعض الأشياء؛ سيختلف عنك أكثر مما يشبهك!

نعم.. هو كيان مغاير لك، ليس ملكك، وليس آلة صَنعتَ تفاصيلها بيديك.. إنه أعقَد من ذلك! وأكثر كفاءة مما تتوقع.

ربما سيختار غير ما اخترتَ له وخططتَ له.. سيعيش على طريقته، ويختار أصدقاءه على طريقته، ويشاهد الفيديوهات التي تروقه، ويلتفت إلى مواهبه واهتماماته وإن كانت خارجة عن خطتك له، وعندما يكبر سيتزوج على طريقته...

 

سابعاً- ابنك لن يجد نفسه مطالباً بالاستفادة من خبراتك.

 

فلا تشعر بأنه مسّ كرامتك أو قدح في شخصيتك حين لم ينفذ كلامك ولم يقتنع بوجهة نظرك!

أعلم أنك حريص على أن لا يكرّر ابنك أخطاءك.. لكنه سيجرّب ويختبر الحياة كما خبرتها، أما دروسك وتنبيهاتك فسيعدّها في مرحلة ما نوعاً من القناعات القديمة البالية المنتمية لغير زمنه، لذلك اترك له مساحة التجريب غير الخطر، وأخبره بالنتائج، ودعه يراها ويثق بعقليتك وخبراتك.

مهمتك أن تزرع له بذور الوعي برفق وأسلوب مناسب، وتعتمد مبدأ المناعة وليس المنع، وتحترم مواهبه وقدراته وطبيعة شخصيته، وتأكد أن تلك البذور ستثمر يوماً.

خذ بالوناً أبيض اللون، ارسم عليه قبل أن تنفخه دائرة حمراء قطرها سنتيمتراً واحداً، ثم انفخ البالون، لا ريب أن الدائرة سوف تكبر وتصبح أضعاف حجمها الأول! فلا تستعجل، سيعي كلماتك حين يكبر، وسيدعو لك بالخير إن كنت على حق.

 

ثامناً- لن يتغير ابنك مالم تتغير قبله.

 

التغيُّر قبل التغيير، وتغيُّر الآباء شرط لتغير الأبناء، وكما قال الشاعر: 

وبلوتُ أخلاق الرجال فلم أجد

رجلاً يؤثر دون أن يتأثرا

كل من أغفل دور القدوة في حياة المتربي فقد وقع في انفصام تربوي حادّ.

- لن يقتنع ابنك أن يقنن وقت الأجهزة الإلكترونية ما لم تكن قادراً على ذلك!

- لن يتعلم ابنك الصلاة والقرآن والقراءة والنظافة والاحترام... ما لم تكن مثالاً حياً له على كل ذلك.

 

ذُكِرَ أن الشافعي أُدخِل يوماً إلى بعض حُجَر هارون الرشيد ليستأذن على أمير المؤمنين، ومعه سراج الخادم، فأقعده عند أبي عبد الصمد مؤدِّب أولاد الرشيد، فقال سراج للشافعي: يا أبا عبد الله هؤلاء أولاد أمير المؤمنين وهذا مؤدِّبهم، فلو أوصيتَه بهم، فأقبل على أبي عبد الصَّمد، فقال له: (ليكن أول ما تبدأ به من إصلاح أولاد أمير المؤمنين إصلاحُك نفسَك، فإن أعينهم معقودة بعينك، فالحسَن عندَهم ما تستحسنه، والقبيح عندهم ما تركتَه، علمهم كتاب الله، ولا تُكرههم عليه فيمَلوا، ولا تَتركهم منه فيهجروه، ثم روِّهم من الشعر أعفَّه، ومن الحديث أشرفَه، ولا تخرجنَّهم من علم إلى غيره حتى يُحكِموه، فإن ازدحام الكلام في السمع مَضلَّة للفهم) [تاريخ بغداد للخطيب البغدادي، وصفة الصفوة لابن الجوزي]

 

تاسعاً- "سوبر بابا" و "سوبر ماما" مجرد وهم لا يمكن تحقيقه!

 

لن تستطيع أن تلبي لابنك كل ما يحتاج، فالتربية عملية تكاملية، وابنك يحتاج لمؤثرات أخرى غيرك.

في البدايات يحتاج لأب وأم، ثم يحتاج لأب وأم وصديق، ثم يحتاج لمعلم، ثم يحتاج لمجتمع...

إشباع حاجة الطفل إلى الحنان - مثلاً - لا يكفيها مصدر واحد!

حاجته الاجتماعية لا يمكن تلبيتها من طرف شخص واحد! 

حاجته إلى الأمان لن تلبيها وحدك! 

لا يمكن للأب أن يستأثر بالعملية التربوية على حساب الأم بمبدأ الديكتاتورية التربوية، ولا الأم كذلك، ولا يصح أن يستقيل أحدهما من التربية؛ فهي واجب مشترك، لا يكفيه طرف واحد، وهذا من عموم قوله تعالى: {لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ} [البقرة: 233]

وهنا أقول: ابنك لا تربيه وحدك، فالتربية عملية تكاملية، تؤثر فيها مؤثرات خمسة ذكرتها في مقال: (التربية المضادة)

 

عاشراً- التربية في معظمها لا تقوم على قواعد ثابتة وحقائق قطعية:

 

التربية عملية معقدة، تتداخل فيها المؤثرات الخمسة (المنزل، والمجتمع، والمدرسة، ومؤسسات المجتمع المدني، والمسجد)، والإنسان مخلوق معقّد، وأقصد أنه ليس بسيطاً ، بل هو (أعقد آلة في الكون)، وعلم النفس لا يزال عاجزاً عن سبر أغوار النفس والوقوف على قواعد متينة فيها.

وبعقلية الباحث حاولت أن أتأكد من أن ما نقوله للناس في المجال التربوي هو صحيح بالكامل، لكن حقيقة علم التربية اليوم متأثر جداً بالغرب، بدراساته وأبحاثه وخلاصاته وتوصياته، متأثر بمدرسة مختلفة عنا عقيدة ومجتمعاً وظروفاً معيشية، ثم إن الخلاصات التربوية لا تصدق على كل الحالات، إنما في الغالب، وكل حالة هي حالة استثنائية، وكل طفل هو مشروع قائم بذاته.

لأجل ذلك.. لا تقارن ابنك بغيره، ولا تنتظر من أبنائك ردة الفعل نفسها، ولا تتوقع أن يتعاملوا مع الأمور بنفس الطريقة، ناهيك أن يتعاملوا معها بطريقتك أنت.

 

هذه عشر حقائق تربوية وصلت إليها بعد قراءات واطلاعات وتجارب متعددة، كانت كلمة الفصل فيها للواقع!