على هرم أولويات الحاجات الإنسانية يتربع عملاق اسمه الاحترام؛ فالإنسان مخلوق مكرَّم، على الاحترامِ فَطَر الله طينتَه {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} [الإسراء: 70].

والإنسان بفطرته يحب من يحترمُه ويعرف له قدرَه، وينفر من أشخاصٍ وأمكنةٍ لا يُحترَم فيها، ولا تُرعى فيها ذمته ومكانته.

وعلى هذه القاعدة المتينة بنى رسول الله صلى الله عليه وسلم علاقة المسلم بالمسلم لما قال في الحديث: «..وكُونوا عبادَ اللهِ إخواناً، المسلم أخو المسلم، لا يظلِمُهُ، ولا يَخْذُلُهُ، ولا يَحْقِرُهُ» [أخرجه مسلم].

 

خلافاً لهذه الفطرة السليمة.. وعلى الجهة المقابلة لها والمتضادة معها تقف كتلة بلهاء اسمها "المازوخية أو الماسوشية أو المازوكية..."، وهي الشعور باللذة والمتعة عند التعرُّض للألم عن طريق الضرب أو التعذيب مادياً أو معنوياً كالسبِّ والشتم والإهانة والربط والضرب والجلد والوخز والعض والجرح والتشويه...، أو أي شكل من أشكال التعذيب الجسدي والنفسي المتمثل بالإهانة والاتِّضاع، وقد يصل ذلك إلى القتل أحياناً!

وتسمى الرغبة بالتعذيب وإحداث الألم لدى الآخرين بـ "السادية"، والتي تحقق لصاحبها الشعور بالقوة والسيطرة على الآخر، وتسمى الرغبة بالوقوع تحت التعذيب بـ "المازوخية".

ومع أن ظاهر الحالتين التضاد غير أن بينهما ارتباطاً يظهر في حالة ثالثة تسمى بـ "السادومازوخية"، وهي خليط ما بين السادية والمازوخية؛ حيث يكون الشخص سادياً حيناً ومازوخياً حيناً آخر.

ويُعَدّ كلُّ ذلك من الاضطرابات النفسية والجنسية الناتجة عن انحراف سلوكي، وليست مرضاً طبيعياً، وكلٌّ منهما ينتشر بين الرجال أكثر من النساء، وعدد من الدراسات تقول بأن المازوخية خاصةً تنتشر بين النساء أكثر، لتجد السادية سوقها الرائجة بين الرجال.

 

هذا، ولا يقتصر -واقعاً- استخدام هذه الألفاظ لوصف الانحرافات الجنسية، إنما يمكن الحديث عن سمة شخص معين أو مجتمع معيَّن من خلال سلوكه أو طريقة تفكيره بأنه من النمط السادي، أو المازوخي؛ إذ يظهر ذلك في بيئة العمل، أو العلاقات الاجتماعية، أو حتى العلاقات السياسية.

 

 

والحقيقة.. أن بعض الناس لديهم هذه الصفة ولو بجزء ضئيل حتى لو لم يشعروا، وذلك نتيجة متابعة أفلام العنف ومَشاهد الجنس ونحو ذلك، لكن الكارثة تكون عندما يزيد الأمر عن الحد المحمول والمقبول طبيعياً وإنسانياً، فيتم السعي لتعزيز ذلك وترسيخه في النفس حتى يكون الألم الحقيقي والمؤذي هو الطريق الوحيد للوصول إلى النشوة الجنسية والراحة النفسية! عندها يحتاج الإنسان للعلاج النفسي الذي يتم عن طريق عدد من الجلسات النفسية التي تُخرج الشخص المبتلى - بمساعدة المعالج - من هذه الدائرة النتنة، من خلال معالجة جذورها وتجفيف منابعها.

 

لماذا ينبغي العمل على معالجة هذا الانحراف؟

 

لعدد من الأسباب، منها:

1- اجتناب الوقوع في المحذور الشرعي، فهذا الفعل محرَّم، والإنسان مكرَّم، ولا يجوز له تعذيب نفسه ولا غيره «لا تزولُ قدَمَا عبد يومَ القيامة، حتى يُسألَ عن أربع: عن عُمُره فيما أفناه؟ وعن عِلْمِهِ ما عمِل به؟ وعن مالهمن أين اكتسبه وفيمَ أنفقه؟ وعن جسمه فيما أبلاه؟» [أخرجه الترمذي].

 

2- اجتناب الوقوع في مخاطر تطورات هذا الانحراف، الذي قد يودي في بعض الأحيان إلى القتل، أو الموت عن غير قصد نتيجة بعض أنواع التعذيب كالشنق الجزئي والخنق الجزئي والطعن... «من تردى من جبل فقتل نفسه فهو في نار جهنم يتردى فيه خالداً مخلداً فيها أبداً، ومن تحسَّى سماً فقتل نفسه فسمه في يده يتحساه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً، ومن قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يجَأ بها في بطنه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً» [متفق عليه].

 

3- اجتناب ما يترتب على هذا السلوك، فغالباً ما يرافقه ضعف في العلاقات الاجتماعية وفتور من الناحية المهنية.

 

 

أسباب ذلك.. 

 

فإن لم يتمادى الأمر للحد السابق فيمكن العمل على العلاج الشخصي الذاتي، الذي نرجو الله تعالى أن يكون نافعاً، وأول خطواته معرفة الأسباب، ومن أهمها:

1) الأسباب النفسية، كمحاولة الرجل إخفاء العجز أو الميول الأنثوية لديه، أو التعبير اللاشعوري عن العدوانية.

2) الأسباب الثقافية: كرفض العلاقة الشرعية بين الجنسين لاعتبارها خطيئة أو شيئاً مهيناً.

3) الاضطهاد الأسري الذي كان يُمارس أمامه في صغره، والذي رسَّخ عنده الميل إلى جانب الضحية، وأخذ دورها تعاطفاً.

4) التنشئة الاجتماعية الخاطئة، المستندة على المواد الإعلامية الهابطة والأمراض الاجتماعية.

5) الظروف التربوية الاستثنائية التي خضع لها في صغره.

6) الخبرات الجنسية المبكرة التي ربطت عنده المتعة بالألم، كمشاهدة الجنس المصاحب للعنف نحو الاغتصاب والتحرش والاختطاف...، مما يجعل المشاهِد مستقبلاً يميل إلى إحدى الحالتين، فيغدو سادياً أو مازوخياً.

7) الاتجاه الحياتي المازوخي، المتمثل بالرضى بالمعاناة وتحمُّل الألم، والذي تكرسه الأنظمة الديكتاتورية التي تصادر الحقوق والآراء، فينعكس ذلك شعوراً بالنفور يظهر اضطراباً عند العلاقات الاجتماعية أو الجنسية.

 

 

8) سوء العلاقات الاجتماعية، فكلما كان الشخص لا يهتم بالمجتمع ومعاييره الأخلاقية أكثَرَ من هذه الممارسات.

9) ضياع البوصلة الشخصية، وافتقاد الهدف.

10) الأمراض العقلية.

 

آلية العلاج الذاتي:

 

1) الإرادة الحقيقية: أول وسائل العلاج الذاتية لتخفيف مشاعر الذنب العميقة وتغيير مسار الذات أن يريد الإنسان حقيقة وفعلاً التخلص من هذا البلاء، ويستجمع قواه للعيش ضمن الدائرة الطبيعية التي أوجدها الله له لتكون بيئة مناسبة للعيش، مستحضراً أن هذا الأمر ما هو إلا مادة رديئة تمَّ استيرادها من مجتمعات غربية متشبعة بالفجور والفوضى الجنسية والانحرافات السلوكية، بعيدة كل البعد عن المنهج الرباني الذي أنزله الله على رسوله ورضيه لعباده، ولا يُقبل بحال أن يتقبلها أو يتقمصها مسلم يؤمن بالله وكتابه ورسوله، يؤمن بالجنة ونعيمها، ويتمتع بحب الله ورسوله، ويتلذذ بمناجاة خالقه والقرب من مولاه، يذل بعبوديته بين يدي خالقه، لكنه يأبى هذا الذل بين يدي من سواه سبحانه.

2) التعرُّف على الأسباب الحقيقية الكامنة وراء هذا السلوك، فإذا ما تعرف المرء على السبب لزِمه التخلص من هذا الدور الذي رضيه لا شعورياً، والعمل على إزالة المثيرات الخاطئة والاستجابات المغلوطة أو محاولة التحكم بها وكبح جماحها على الأقل، والبدء بترسيخ الجانب الآخر في شخصه، ويساعده في ذلك أصل فطرته المبنية على الكرامة والعزة، {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} [الإسراء: 70]، مع العمل على ضبط الذات والتحكم بالرغبات.

3) التفكٌّر في وجوده وحياته على هذه الأرض، واستحضار معنى أن الإنسان خليفة الله في أرضه، مأمور بإعمارها مادةً ومعنى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30]، {هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ } [هود: 61]، وأن الإنسان مسؤول عن جسده ونفسه، محاسَب عليه بين يدي الله.

4) التحكم في البيئة الاجتماعية المحيطة، والتخلص بأي شكل ممن يرسخون هذا السلوك، واتخاذ أصحاب صالحين، مع محاولة تمطيط دائرة العلاقات الاجتماعية، والانخراط في المجتمع السَّوي بشكل أكبر للإحاطة بعاداته وتقاليده ومبادئه وقيمه، فالبعد عنه والانغلاق دونه يساعد على إبقاء هذا السلوك ونموه.

5) الحذر من المتابعات الإباحية، فهي تعزز الأذى بما تحويه من مشاهد عنيفة تخالف الفطرة السليمة والصحة النفسية والجسمية.

6) دعم المادة الروحية، وتحسين العلاقة مع الله تعالى بالتزام أوامره واجتناب نواهيه، وزيادة نسبة العبادات، من الصيام والصلاة والذكر والصدقات وفعل الخيرات وتحمُّل المشاق في سبيل أعمال الخير والبر...؛ حتى يرى نفسه عاد تدريجياً للحالة الإنسانية الطبيعية، هذا مع الإكثار من الدعاء، وليس الدعاء وحده دون الأخذ بالأسباب كافياً في هذه الحالات.

7) دعم الجانب المشرق من الذات، والاجتهاد في الممارسات اليومية التي تدعم المشاعر الإيجابية في النفس، كتفاؤل والحب والرأفة والرحمة والشفقة والحنان..، والقراءة عنها وعن روادها.

قد يهمك: (وقفة أمل - ابتسم بين الركام)

8) محاولة تطوير العلاقة الخاصة بين الزوجين، ورفع نسبة التفاعل بما يحقق الإثارة ويُشبع الرغبة ويتوافق مع الفطرة البشرية السليمة والأحكام الشرعية، هذا مع حفظ كلٍّ من الزوجين سرَّ شريكه المريض ومحاولته إشباع غرائزه بما يرضيهما ولا يخالف دين الله.

9) دعم المعرفة بهذا المرض وأسبابه وأعراضه، وأخطاره وسلبياته، وطرق التعامل معه ومعالجته، وذلك من خلال القراءة عنه، أو استشارة الطبيب النفسي أو المستشار المتمكن الموثوق بعقله ودينه.

10) الصبر على العلاج، فالسادية والمازوخية من الانحرافات التي تمتد لمدة زمنية تحتاج معها للعلاج النفسي والطبي معاً، وإن كانت في عدد من الحالات تتناقص هذه الرغبة المرضية عند الشخص المصاب تدريجياً مع طول الوقت.

 

هذه ثلاثة أسباب تبيِّن ضرورة العمل على معالجة هذا الانحراف..

وعشرة أسباب تتسبَّب في نشأته وتطوره..

وعشر طرق تنفع في عملية العلاج الذاتي منه..