باتت اليوم لا تخفى على أحد تلك التشويهات للمعالم الرمضانية، والتحريفات لمقاصد الصيام وسلوكات الصائمين، والتي تعمل عليها أيادي من نوعين:

أولاهما: خبيثة هدَّامة، تخفي الشر للإسلام والمسلمين، وثانيهما: جاهلة تقلِّد لمنافع مادية أو معنوية، تقدم نفس الخدمة الهدامة للأسف! كيف ذلك؟

 

على مر التاريخ كان هناك محاولات متعددة لتحريف القرآن الكريم، وتشكيك المسلمين بسنة نبيهم عليه الصلاة والسلام، لكنها عندما لم تفلح لأن الله تعالى صان كتابه ودينه، وحفظ قرآنه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، توجه أعداء الأمة إلى تشويه معالم الدين ومقاصده وتحريف ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله..، من ذلك أن مساعيهم طالت رمضان، فصار رمضان اليوم في ديار المسلمين هو كناية عن جملة من الأعمال الدرامية وبرامج التسلية والكوميديا التي تسرق المسلم من شهره الفضيل، مع تسليط الضوء على الاستهلاك في الطعام والشراب واللباس، وبعض الأجواء والطقوس الفارغة التي توهم ببركة رمضان، كالفوانيس والحلويات والخيم والسهرات الرمضانية التي لا تمت لرمضان بصلة في غير اسمها!

 

هذا جعل رمضان اليوم أقل أثراً على المسلمين من رمضان السلف الصالح الذي كان يهلُّ عليهم بمعان أخرى، وتقرأ العجب عن أيامهم ولياليهم الرمضانية!

والحقيقة أن رمضان -في الأصل- لا يغير أحداً، ولو كنا نؤمن بغير ذلك -للأسف-، نؤمن بأن مجرد دخول رمضان كفيل بالتغيير، فدقائقه وساعاته وأيامه ولياليه لها مفعول سحري يقلب المسلم رأساً على عقب! فمن آمن بذلك وجد نفسه أنه ما عليه إلا الاستسلام والانتظار والمتابعة بشغف كما يفعل أكثر من مليار مسلم كل عام!

 

نحن نؤمن أيضاً بأن الحج يغير الناس، والعمرة تغيِّرهم، فننتظر أن يكونوا أناساً من كوكب آخر بعد هذه العبادات، حتى الزواج نؤمن بأنه يغيّر الشباب، فترى الأبوين يظنان بأن تزويج ولدهما الطائش يضبطه ويعقِّله، فيتفاجآن أنه بعد الزواج "تيتي تيتي، متل ما رحتي متل ما جيتي!".

 

لاحظ قول الله تعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} [محمد: 17]، متى يزيد الإنسان من مستوى هدايته ويدرك تقواه؟ حينما يهتدي، ومتى يهتدي؟ قال تعالى: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 54]. الهداية مرتبطة بالطاعات، بالعبادات، بالاستسلام لأوامر الله واجتناب نواهيه، بفعل يبدأ من الإنسان، ولعل من الآيات التي توصح المعنى أيضاً قول الله تعالى: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [المائدة: 15، 16].

 

وفي آية أخرى قال تعالى: {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ * لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} [التكوير: 27، 28]

 

وكثير من الآيات الأخرى التي تصب في ذات المعنى، لكننا نؤمن بأن الهداية هي محض عطاء من الله، ليس للعبد فيها أي حركة ولا دور، ونستشهد بمثل قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [البقرة: 272]، { إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص: 56]، والذي يغيب عن الذهن أن تقدير الآية: والله يهدي من يشاء منكم أن يهتدي، فلا بد من بذل جهد لبلوغ الهداية وحصول التغيير.

 

والمشكلة أن هذه الحزمة الفكرية الاستسلامية الانبطاحية السلبية التي تنتظر التغيير من السماء كانت موجودة في الجاهلية الأولى، وعابها القرآن الكريم، فقال تعالى: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا} [الأنعام: 148]، وفي آية أخرى: {وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} [النحل: 35]. ما على الرسول إلا البلاغ، وما علينا إلا الاتباع والطاعة، وبغير ذلك لا تكون الهداية.

 

أرأيت إلى المريض لا يتناول دواءه ويقول بأن الشافي هو الله؟!

أرأيت إلى المدخن يلتزم لفافته ويتمسك بها وهو يسأل الله أن يصرفه عنها؟!

أرأيت إلى الزوج أو الزوجة يسيئان اختيار شريك الحياة، ثم يقولون: (الموفق هو الله)!

أرأيت إلى الآباء يهملون تربية الأبناء ثم يسألون الله لهم الصلاح؟!

أرأيت إلى الداعي يقدّم الدعاء، لا يجعل معه قطراناً، يرسلها ويتوكل؟!

كلهم آمنوا بنفس الأمر، فسلكوا نفس السبيل، وإن كان المواضيع تختلف.

 

يقول الشيخ محمد الغزالي عليه رحمة الله: (إن الأدعية أشبه بالأناشيد الحماسية التي تثير عواطف الركب السائر، فهي ليست جؤار القاعدين ولا أماني الهامدين، بل هي أمداد دافقة من الحق والضياء واليقين، يتغلب بها البشر على مشكلات العيش ومضايق الأيام..

ثم هي تحديد للمعاني التي يصح التمسك بها والتقلب في جوها، وهي معان قوامها عقد العزم على العمل في ظل الإيمان والعافية والعدالة، وفي ظل الكبرياء على مشاغل الدنيا ومحرجاتها الجمة، وبهذا المنهج يطيب المرء روحا وبدنا، ويكتمل دينا ودنيا.

بعض الناس يتصور أن الدعاء موقف سلبي من الحياة، أليس عرض حاجات وانتظار إجابة؟!

يوم يكون الدعاء كذلك -لا يعدو ترديد أماني، وارتقاب فرج من الغد المجهول- فإن الدعاء يكون لغواً، ولا وزن له عند الله.. إن الدعاء أولاً تحديد وجهة، ورسم مثل أعلى).

 

وهناك قصة طريفة ذكرها الشاعر أحمد شوقي، كان صاحبها قد فرح بانتهاء رمضان شوقاً لشرب الخمر، قال فيها :

رمضان ولى هاتِها يا ساقي   |   مشتاقةً تسعى إلى مشتاقِ

ما كان أكثرهُ على أُلافِها   |   وأقلُهُ في طاعة الخلاقِ

الله غفار الذنوبِ جميعها   |   إن كان ثمَّ من الذنوب بواقي

بالأمس قد كنا سجيني طاعةٍ   |   واليوم منّ العيد بالإطلاقِ

ضحِكت إليّ من السرور ولم تزل   |   بنت الكروم كريمة الأعراقِ

هات اسقنيها غير ذات عواقبٍ   |   حتى نُراع لصيحةِ الصفّاقِ

فلعلّ سلطان المدامة مخرجي   |   من عالمٍ لم يحوِ غيرَ نفاقِ 


أمثال هذا السلوك نشهده اليوم مع اختلاف موضوع الشغف، فنسأل الله تعالى أن يجعلنا في شهرنا هذا من السعداء الناجين، ولا يكتبنا فيه من الأشقياء المحرومين.