مما يُشعر الإنسان بالسرور والحبور أن يسمع اسمه يتردد على ألسنة الآخرين، أن يراهم مهتمين به، معجبين بأدائه، مأخوذين بإنجازاته، متابعين لنشاطاته، فلاسمه صدى خاص ونغمة مختلفة حين يكون في معرض المدح والثناء والتفوق، هكذا فطرنا الله أن نكون، ومن لم يُسعفه ذلك حقيقةً رأيتَه يُكثر من ترداد اسمه، والحديث عن نفسه وتفرُّده وأهميته، وتعداد ميزاته وفضائله وإنجازاته الخارقة من باب "التحدث بنعم الله".

 

 

أحياناً ينشد الإنسان -فعلاً- تطوير جانبه المشرق، وإصلاح الجانب المظلم، يأخذه ذلك عن الاهتمام بشؤون الآخرين والحديث عن أخطائهم، ولكنه لا يمكنه ذلك إلا بمعرفة نفسه، ولا يمكنه معرفتها إلى بمنظار الآخرين، فالشيء إذا زاد قربه صعُبت رؤيته، والعين -مثلاً- لا ترى نفسها إلا بمرآة، وكذلك لا ترى كل ما تناهى قربُه منها، والنفس -كذلك- لا ترى معالمها ولا تدرك تضاريسها إلا من قول عدو أو شهادة صديق، أو بمحاولة للتجرد والحياد والموضوعية، مع انقسام إلى قسمين، ناظر ومنظور، حاكم ومحكوم، قاضٍ ومتَّهم، وما أندر أن تصل بذلك إلى نتائج نزيهة وكاشفة، لتصلِح خللها، وتعالج عِللها، وتدعَم ما فيها من الميزات.

هل سبق وقرأت كتاب "اكتشاف الذات" للأستاذ الدكتور عبد الكريم بكار؟

[قد يهمك: 10 خطوات تعين على معرفة النفس وفهمها]

 

(إن للنفس أعماقاً كأعماق البحار، وغموضاً كغموض الليل، فالوعي واللاوعي، والعقل الباطن والظاهر، والشعور البسيط والمركب، والباعث السطحي والعميق، والغرض القريب والبعيد...، كل هذا وأمثاله يجعل تحليلها صعب المنال، وفهمها أقرب إلى المحال)  [أحمد أمين - حياتي]

 

من هذا الباب كنت في زمن مضى أحمل عبارة "اختصرني بكلمة" وألقيها على من حولي ممن أثق بعقولهم وحسن معرفتهم بي، وصدق محبتهم لي، لأرى نفسي بعيون الآخرين، فأدعم الصواب واتقي الخطأ، وكنت أستعين بمن أثق بعقله وصدق محبته، ولكن النتائج كانت مختلفة ومتنوعة جداً، وذلك بحسب طبيعة العلاقة بيني وبين كل من سألتُه هذا السؤال، وبحسب زاوية النظر التي ينظر لي منها، وبحسب تجاربه الحياتية السابقة، وأحكامه المسبَقة، وتصنيفه لمن حوله...

 

 

أحدهم امتنع عن الجواب، وطلب مهلة طويلة، ثم أجابني بثلاث وصايا، ولم يقبل أن يختصرني في كلمة.

أظنه كان أكثرهم عقلاً؛ لأنه عرف أن الإنسان لا يمكن بحال اختصاره في كلمة، ولا الإحاطة به في نظرة ثم ضغطه في أحرف..

هل قرأت كتاب "الإنسان ذلك المجهول" لأليكسيس كاريل؟!

 

إن الموضوعية في الوصف، والتوازن في إصدار الأحكام، مهارة لا يمتلكها إلا القليل منا في الحياة، ولعل مِن أكثر مَن أحسن فيها وأجاد هو الإمام الذهبي، وكتابه "سير أعلام النبلاء" وتعليقاته على الأحداث التي نقلها فيه أوضح دليل على موضوعيته النادرة، وإنصافه العجيب!

 

حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه لم يرض النبي صلى الله عليه وسلم أن يختصره في موقف يوم كتَبَ كتاباً إلى قريش يخبرهم بالذي أجمع عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأمر في السير إليهم غزوةَ الفتح، وأعطاه امرأة وجعل لها جُعلاً على أن تبلغه قريشاً، فأتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم الخبرُ من السماء بما صنع حاطب، فاسترجع الكتاب، ودعا حاطباً وقال: «يا حاطب ما حملك على هذا؟» فقال: يا رسول الله، أما والله إني لمؤمن بالله وبرسوله، ما غيرت ولا بدلت، ولكنني كنت امرءاً ليس لي في القوم من أصل ولا عشيرة، وكان لي بين أظهرهم ولد وأهل، فصانعتهم عليهم.

فقال عمر بن الخطاب: يا رسول الله، دعني فلأضرب عنقه فإن الرجل قد نافق! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وما يدريك يا عمر، لعل الله قد اطلع على أصحاب بدر يوم بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم»([1]).

 

وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أنَّ رجلاً على عهد النبي صلى الله عليه وسلم كان اسمه عبد الله، وكان يلقب حماراً، وكان يُضحِك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد جَلَدَهُ في الشراب، فأُتي به يوماً فأمر به فجُلد، فقال رجل من القوم: اللهم العنه ما أكثر ما يُؤتى به! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تلعنوه، فوالله ما عَلمتُ إلا أنه يحبُّ الله ورسولَهُ» [أخرجه البخاري في صحيحه].

 

عندما تقوم بالتسجيل في مواقع التواصل تطلب منك أن تختصر نفسك "تعريفاً" في سطر واحد، وهذا أشبه بأن يقال لك: أعطني رتبة وصلت إليها في وظيفتك، أو صف طموحاً واحداً حققته في حياتك، أو تحدث عن مستواك في موهبتك... ستجد التعريفات كلها كذلك، مع أن تعريفاتنا لا تنتهي، بل تمتد بامتداد مجالاتنا الحياتية وتحركاتنا واهتماماتنا.. والسطر الواحد لا يتسع لإنسان كامل، ولا يتحمل إلا صفة له في مجال واحد من مجالات الحياة.

 

عندما وضعت خطتي الشخصية أردتُ تعريف نفسي، فوجدت أني أمثّل 31 شخصية حياتية، لكلٍّ منها مرتبة خاصة، وزاوية خاصة، ومساحة حياتية خاصة، الغريب أنها كانت تزيد مع الأيام بزيادة وعيي بنفسي وتطور النشاطات وزيادة المنصات التي أرتادها.. وكل إنسان هو هذا الرجل أيضاً، فكيف أختصره في واحد منها.. وفي كلمة واحدة؟!

 

 

لكننا -عملياً- نختصر الناس بموقف اتخذوه، أو بفعل فعلوه، أو بكلمة قالوها، وننسف الباقي نسفاً، فيهيمن الموقف الواحد على عشرات المواقف التي سبقته، ويطيح الخطأ بألف صواب قبله، وتطغى الصفة -سلبية كانت أو إيجابية- على باقي الصفات، لنتصرف بعدها مع هؤلاء الأشخاص بالتصرف الذي يتناسب مع أحكامنا الذهنية عنهم، وهذا من الظلم بمكان..

 

- أخ يشيطن أخاه لأنه أكل عليه من حصته الإرثية، وآخر يجعله ملائكيَّ الروح لأنه آثره على نفسه في ذات الموقف..

 

- شريك ينسف شريكه لاختلاف مادي بينهما، حتى إنه ليكاد أن يجرده من إنسانيته وديانته، وآخر يذوب متساهلاً لفرط الثقة بينهما نتيجة موقف أو اثنين.

 

- صديق يحيل صديقه إلى جهة عدوه بسبب كلمة قالها أو خطأ أخطأه أو موقف اتخذه أو معارضة ما كانت تروق له! ويحيل عدواً آخر ليبوِّءه ذات الرتبة التي نزعها عن صديقه!

 

- أبٌ يختصر ولده بالعلاقة الوالدية بينهما، فيعامله في السر والعلن على أنه ابنه -وحسب-، على أنه الابن الذي يُزعجه أبوه فيَسكت، ويأمره فيَتبع، وينهاه فيرتدع، ويحركه كيفما شاء متى شاء!

 

- زوج يختصر زوجته اختصاراً ظالماً ومجحفاً نتيجة اختلاف بينهما، فتراه يجمع لهذا الاختصار المواقف التي تدعمه وتقَولبه، وحين الرضا -كذلك- يختصرها بصفة ساذجة حجرية أو شهوانية أو مادية.. أو أي صفة لا يصح اختصار الأنثى بها.

 

- طالب يختصر أستاذه بقالب ساذج؛ لأن أستاذه لم يَرقَ إلى الصورة التي رسمَها له في ذهنه، أو انحدر عن رتبة القدوة عنده بسبب خطأ بشري - وكلُّنا عرضة للخطأ -، والأستاذ يفعل ذلك أيضاً، فيختصر الطالب باجتهاده، أو ضعف مشاركته، أو مشكلته العائلية التي عرفها عنه في غرفة المدرِّسين!

 

- ينقلب على صديق أو حبيب، ويقول لك: الموقف الفلاني فضحه، كشف زيفه، وأذاع نفاقه.. نعم، ربما، فهذا الموقف وهذا الفعل وهذه الكلمة كانت نابعة من جذور معقَّدة في شخصيته وعقليته وأحكامه ومحاكماته، متولدة عن صراع بين قناعاته ومبادئه ومصالحه ووو...، لكن بالمقابل ترى الإنسان نفسه يتخذ موقفاً مضاداً تماماً فيما قبل أو فيما بعد، أو يسلك سلوكاً مصادماً للسلوك الذي نريد اختصاره فيه.. فما تبريرنا لذلك؟!

 

في العادة يكون عندنا أجوبة مسبقة لتبرير ذلك، وقوالب جاهزة لوضع الناس فيها، فندعي بأن هذا اختلفت مصالحه، وهذا تغيرت مبادئه، وهذا تراجع حين عرف نفسه مخطئاً... لكن في الغالب تكون هذه الأحكام المسبقة والقوالب الجاهزة ساذجة وسطحية ومغلوطة.

والغريب أن نخضع لهذه القوالب المختصرة هامات كبيرة وأسماء جليلة، فنعكف على استقصاء تناقض العلماء في كتبهم، وجمع اختلافهم في أحكامهم على مسائل متشابهة، وتراجعهم عن كثير من الأمور التي سبق واستماتوا بالدفاع عنها، لنقوم بتصنيفهم بعد ذلك إلى جاهل، وعميل، وعالم سلطة، وصادق مصدَّق لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه!

 

وللتقريب.. "تقريب التهذيب" مثالاً:

أظن بأن علم الجرح والتعديل علم واسع جداً، قام في أصله على فكرة بسيطة، ولكنَّ تحري الدقة في هذا العلم جعَله يتسع ويتفرَّع؛ لأنَّ مادته المدروسة "الإنسان" أعقد من فكرته البسيطة! 

 

 

في علم الجرح والتعديل ألَّف الحافظ عبد الغني المقدسي (ت600 هـ) كتابه "الكمال في أسماء الرجال"،  فجاء المزي (ت742 هـ) وأضاف عليه وأصلح الخلل وأتم النقص في كتابه "تهذيب الكمال"، فكان كتاب المزي أعظمَ كتاب ألِّف في موضوعه على الإطلاق، ووقع في أربعة عشر مجلداً، استغرق تبييضه -فقط- سبع سنين (من 705 حتى 712هـ)، فكسف الكتب المتقدمة في هذا الشان، وسارت به الركبان.

وبعد ذلك أراد ابن حجر العسقلاني (ت852هـ) اختصار "تهذيب الكمال" فصنَّف "تهذيب التهذيب"؛ إلا أنه طال إلى أن جاوز ثلث الأصل، والثلث كثير، فالتمس بعض طلاب العلم من ابن حجر أن يزيد في اختصاره، يقول ابن حجر: (فلم أوثر ذلك لقلة جدواه على طالبي هذا الفن، ثم رأيتُ أن أجيبَه إلى مسألته، وأسعِفه بطلبته، على وجه يحصل مقصوده بالإفادة، ويتضمن الحسنى التي أشار إليها وزيادة) [مقدمة التقريب]، فاختصر ابن حجر كتابه هذا "تهذيب التهذيب" في كتاب جديد سماه "تقريب التهذيب" فرغ من تأليفه سنة (827 هـ)، وهو مطبوع في مجلدين، أراد فيه أن يختصر الحكم على الرجال من حيث القبول والرد في الجانب الحديثي من زاوية الجرح والتعديل بكلمة واحدة، فاقتصر فيه الحكم على الشخص بإيراد (أصح ما قيل فيه، وأعدل ما وصف به، بألخص عبارة، وأخلص إشارة، بحيث لا تزيد كلُّ ترجمته على سطر واحد غالباً، يجمع اسم الرجل واسم أبيه وجده، ومنتهى أشهَر نِسبته ونسَبه، وكنيته ولقبه، مع ضبط ما يُشكِل من ذلك بالحروف، ثم صفته التي يختص بها من جرح أو تعديل، ثم التعريف بعصر كلِّ راوٍ منهم)([2]).

 

ومع هذه الزاوية الدقيقة التي أراد ابن حجر اختصار الرجال منها في هذا التخصص تحديداً -وليس في كل الحياة-، مع هذه المنهجية الدقيقة، والجهود العظيمة المبذولة سابقاً في جذور الكتاب وأصوله، ظل ابن حجر يعاود النظر فيه: يزيد فيه وينقص، ويوضح ويعدِّل إلى قريب من وفاته بسنتين، كما هو واضح من تواريخ الإلحاقات والإضافات التي دونها على النسخة التي كتبها بخطه من "التقريب"، فكان ما دوَّنه في هذا الكتاب خلاصة مركزة لما انتهى إليه من رأي واجتهاد وحكم في الرجال المذكورين فيه([3]).

 

ومع ذلك، فالكتاب حوى أخطاء مطبعية غير قليلة، أثَّرت على الأحكام الواردة فيه، مما جعَل بعض أهل العلم يذهب إلى عدم اعتماده في الجرح والتعديل، والاستغناء بأصوله ونظرائه في هذا الفن، ودفعَ بالشيخين الجليلين بشار معروف وشعيب الأرناؤوط لتصنيف كتاب "تحرير تقريب التهذيب" الذي طبعَته مؤسسة الرسالة (1417هـ - 1997م)، وقد تعقبا فيه الحافظ ابن حجر في أحكامه، فقاما باستقراء أحكامه على الرواة ومقابلتها بأقوال أهل الجرح والتعديل، لكنهما -أيضاً- لم يَسلَما ممن يتعقبهما أيضاً؛ إذ صنَّف الدكتور ماهر ياسين الفحل كتاباً حوى دراسة نقدية لكتاب "تحرير تقريب التهذيب" أسماه: "كشف الإيهام لما تضمَّنه تحرير التقريب من الأوهام"، طُبع في (2006م)، يقول د.الفحل: (ظهر كتاب أسماه مؤلفاه الدكتور بشار عواد معروف والشيخ شعيب الأرناؤط : "تحرير تقريب التهذيب"، ادعيا فيه تعقب الحافظ في أحكامه وأنه أخطأ في خمس الكتاب، ولم يكن صاحب منهج...، ومن ثم أخذت على عاتقي التصدي لهذا الكتاب وبيان ما فيه من زيف وزلل وخطأ ووهم).

 

لكن شهادة ابن حجر في كتابه من أعظم ما قيل فيه؛ إذ لم يمت ابن حجر وهو عن الكتاب راضٍ، فقد نقل تلميذه السخاوي (ت902) في كتابه "الجواهر والدرر في ترجمة شيخ الإسلام ابن حجر" عن ابن حجر قوله: (لستُ راضيًا عَنْ شيءٍ منْ تصانيفي؛ لأني عملتها في ابتداء الأمر، ثم لم يتهيَّأ لي مَنْ يحرِّرُها معي، سوى "شرح البخاري"، و"مقدمته"، و"المشتبه"، و"التهذيب"، و"لسان الميزان").

يقول السخاوي: (بل رأيته في موضع أثنى على "شرح البخاري" و"التغليق" و"النُّخبة"، ثم قال: وأمَّا سائر المجموعات، فهي كثيرةُ العَدد، واهية العُدَد، ضعيفةُ القُوى، ظامئة الرُّوى)([4]).

 

أظن بأن قصة هذا الكتاب درس بليغ في خطورة منهج اختصار الأشخاص، فالجهود السابقة للكتاب على تميزها كمَّاً ونوعاً، واستهلاكها جهداً ووقتاً مع أئمة عصرها، وبناء اختصار "التقريب" على أساسها، ثم سنوات في التنقيح والتعديل والإضافة، كل ذلك لم يرقَ بهذا العمل إلى أن ينال رضا مصنِّفه رحمه الله، بل دفع الخلف بعد السلف، والمعاصر بعد المتقدِّم؛ ليُدلي بدلوه مصححاً ومصوباً ومثبتاً ونافياً..، فما بالك بمن يختصر اليوم شخصاً في كلمة أو سطر دون أن يكلِّف نفسه عناء المتابعة والتقصي والإعذار والموضوعية والتقدير..؟!

 

 


([1]) متفق عليه، وينظر: السيرة النبوية لابن كثير [3/ 537]،.

([2]) مقدمة التقريب.

([3]) ينظر مقدمة محمد عوامة لطبعته أو مقدمة صاحبي (تحرير التقريب) لطبعتهما.

([4]) الجواهر والدرر [2/ 659]