كلمة الدكتور أحمد رباح،

ضمن أعمال الملتقى الوطني العاشر للأسرة - بسكرة - الجزائر 

في الفترة: 24- 25 / 03 / 2018 م

بسم الله الرحمن الرحيم

خَصَّ اللهُ نبيَّنا محمداً صلى الله عليه وسلم بأن أباح له من الزواج بالنساء ما لم يُبِحْ لغيره، فقد تزوَّج النبيُّ صلى الله عليه وسلم إحدى عشر امرأة، ودخل بهنَّ، منهن اثنتان ماتتا في حياته صلى الله عليه وسلم، وهما: (السيدة خديجة بنت خويلد، وزينب بنت خزيمة (أم المساكين)، وهما أطولهنَّ حياة معه، وأقصرهنَّ حياة معه، رضي الله عنهما.

وتوفِّيَ صلى الله عليه وسلم عن تسع نسوةٍ، وهنّ: (عائشةُ، وسَوْدَةُ، وحفصةُ، وأمُّ سلمة، وزينبُ بنت جحش، وأمُّ حبيبة، وجُوَيرِيَة، وصفيةُ، وميمونة).

 

وإنك لتعجب كيف وفَّق سيدُنا محمد صلى الله عليه وسلم بين هؤلاء النسوة، وهن مختلفاتٌ في السن، مختلفاتٌ في الطبع، مختلفاتٌ في الأخلاق، مختلفات في المشارب؟

وإنك لتزدادُ عجباً حين ترى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوفِّقُ بين واجباته الزوجية، وأعماله الدعوية، وغيرُه من الرجال تكون عنده الزوجةُ الواحدة، وبعض الأولاد، فتراه في شُغْلٍ شاغل، وفي حَيْرةٍ بالغة، في التوفيق بين زوجته وأولاده، وبين زوجته وأمه، وبين أسرته وعمله.

 

وإن الناظر في سيرته صلى الله عليه وسلم مع زوجاته الطاهرات ليرى صفاته زوجاً تندرج تحت أصل عريض، وهو إحسان العشرة، وهو ما أمر الله به الرجل الزوج، فقال تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء: 19] فسواء أحب زوجته أو كرهها، هذا لا يبيح له الخروج عن دائرة هذا الأصل.

 

وقد سُئلت أم المؤمنين عائشة عن خُلُقِ رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: «كان خلقه القرآن» [مسلم وأحمد].

 

وبالنظر إلى بعض المواقف الواردة في سيرته صلى الله عليه وسلم، والآثار الواردة في كتب السنة والحديث، يجد المتتبع للنبي (محمد صلى الله عليه وسلم الزوج الصالح) مادة زاخرة فاخرة عامرة، دروسها لا تنقضي، ومكارمها لا تنحصر، وفضائلها لا تُحصى...

ولكن، ما لا يُدرَك كلُّه، لا يُترك كلُّه، ولذلك رأيت أن أختصر هنا الحديث عن ثلاثة محاور من المحاور التي وقفتُ عليها في (محمد صلى الله عليه وسلم الزوج الصالح)، وأذكر لكل محور بعض الأمثلة عليه.

هذا لتجديد الاتباع والتأسِّي بالنبي الكريم صلى الله عليه وسلم؛ قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ} [الأحزاب:21].

وينتفي الاتباع والتأسي بانتفاء المعرفة، وكيف للمرء أن يتبع من يجهل خطاه، ويتأسى بمن لم يقف على مزاياه، وكيف للإنسان أن يحبَّ من يجهله وطبعه يقتضي أن يعادي ما يجهل؟! وكيف يهتدي للمسير إذا فقد الفهم عن البوصلة، وكيف يقتدي إذا فقد الميزان الذي به يعرف الغث من السمين، والجليل من المشين؟!

 

شمائل النبي صلى الله عليه وسلم الزوج الصالح:

 

1) كان صلى الله عليه وسلم رفيقاً رحيماً رقيقاً

ورد في وصفه صلى الله عليه وسلم أنه «كان رحيماً رفيقاً» [البخاري].

وفي رواية: « وكان رقيقاً رحيماً» [البخاري].

وعند مسلم: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم رحيماً رقيقاً» [مسلم].

 

وكان صلى الله عليه وسلم ألين الناس، لطيفاً:

سُئلت السيدة عائشة -رضي الله عنها-: كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خلا في البيت؟ فقالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أليَنَ الناس، بسَّاماً ضحَّاكاً). [ابن عساكر في تاريخ دمشق، وإسحاق بن راهويه في مسنده]

وكان لطف رسول الله صلى الله عليه وسلم ظاهراً، يزداد عند مرض زوجته، ففي حديث الإفك قالت عائشة: (فقدِمنا المدينةَ فاشتكيتُ حين قدِمتُ شهراً والنَّاس يفيضون في قول أصحابِ الإفك لا أشعرُ بشيءٍ من ذلك وهو يريبني في وجعي أنِّي لا أعرفُ من رسولِ الله صلى الله عليه وسلم اللُّطفَ الذي كنتُ أرى منه حين أشتكي) [متفق عليه].

 

كان صلى الله عليه وسلم لا يضرب الزوجة ولا يعنفها:

تقول السيدةُ عائشة رضي الله عنها: ما ضرب رسول صلى الله عليه وسلم شيئاً قط بيده لا امرأة، ولا خادماً، إلا أن يجاهد في سبيل الله. [مسلم]

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تَضْرِبوا إِماءَ الله»، فجاء عمرُ رضي الله عنه إِلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ذَئِرنَ النساءُ على أزواجهن -أي: تجرَّأن-، فرَخَّصَ في ضربهن، فأطاف بآلِ رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءٌ كثير يَشْكُون أَزواجهنّ، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «لقد طاف بآل محمد نساءٌ كثير يشكون أزواجهنَّ، ليس أولئك بخيارِكم». [أبو داود].

 

ومن رفقه صلى الله عليه وسلم أنه كان يوصي أصحابه بالرفق بزوجاته:

فمرة، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره وغلام أسود يقال له "أنجشة" يحدو، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا أنجشة رويدك سوقا بالقوارير» قال أبو قلابة: تكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم بكلمة لو تكلم بها بعضكم لعبتموها عليه [مسلم].

وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت: ذكر النبي صلى الله عليه وسلم خروج بعض أمهات المؤمنين، فضحكت عائشة، فقال: «انظري يا حميراء، أن لا تكوني أنت» ثم التفت إلى علي فقال: «إن وليت من أمرها شيئا فارفق بها» [المستدرك على الصحيحين للحاكم]

 

وكان صلى الله عليه وسلم يعلِّم نساءه الرفق:

عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: (دخل رهطٌ من اليهود على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: السَّام عليك، قالت عائشة: ففهِمتُها، فقلتُ: عليكم السَّام واللعنة، قالت: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مهلاً يا عائشة، إن الله يحب الرِّفق في الأمر كلِّه»، فقلتُ: يا رسول الله، ألم تسمَع ما قالوا؟! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قد قلتُ: وعليكم» [متفق عليه].

وفي رواية: «مهلا يا عائشة عليك بالرفق وإياك والعنف والفحش» [البخاري]

 

2) كان صلى الله عليه وسلم زوجاً متوازناً وموضوعياً مع زوجاته

كان عليه الصلاة والسلام متوازناً:

لا يطيش صلى الله عليه وسلم كما يطيش بعض الرجال، ولا ينفعل كما ينفعل الرجال.

عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عند بعض نسائه، فأرسَلَتْ إِليه إِحدى أُمهات المؤمنين بِصَحْفَة فيها طعام، فَضَرَبتِ التي هو في بيتها يَدَ الخادِمِ، فَسَقَطَتِ الصَّحفَةُ، فانْفَلَقَتْ، فَجَمَعَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فِلَق الصَّحفَةِ، ثم جعل يجمع فيها الطعام الذي كان في الصحفة ويقول: «غَارتْ أُمُّكم، غارتْ أُمُّكم»، ثم حَبَس الخادم، حتى أُتيَ بِصَحفَة من عند التي هو في بيتها، فدفعها إِلى التي كُسِرَتْ صَحْفَتُها، وأمسك المكسورة في بَيْتِ التي كَسَرَتْها) [البخاري].

 

ولعل من أظهر أدلة التوازن ما روت عائشة رضي الله عنها في حادثة الإفك، فقد كان صلى الله عليه وسلم متوازناً في التعامل معها، مع الضغط الذي يجده في نفسه وفي المجتمع، ومع ذلك كان متوازناً، تقول عائشة رضي الله عنها: (فقدِمنا المدينةَ فاشتكيتُ حين قدِمتُ شهراً والنَّاس يفيضون في قول أصحابِ الإفك لا أشعرُ بشيءٍ من ذلك وهو يريبني في وجعي أنِّي لا أعرفُ من رسولِ الله صلى الله عليه وسلم اللُّطفَ الذي كنتُ أرى منه حين أشتكي.

 

فبينا نحن على ذلك دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم علينا فسلَّم ثم جلس، ولم يجلس عندي منذ قيل ما قيل قبلَها، وقد لبثَ شهراً لا يوحَى إليه في شأني بشيء، قالت فتشهَّد رسولُ الله صلى الله عليه وسلم حينَ جلس ثم قال: «أمَّا بعد، يا عائشة، إنه بلغَني عنك كذا وكذا، فإن كنتِ بريئةً فسيبرِّئُك الله، وإن كنتِ ألممتِ بذنبٍ فاستغفري الله وتوبي إليه، فإنَّ العبدَ إذا اعترفَ ثم تابَ تابَ الله عليه». [متفق عليه].

 

وكان عليه الصلاة والسلام موضوعياً:

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يَفْرك مؤمناً مؤمنة، إذا كره منها خُلقاً رَضِيَ منها آخَرُ» [مسلم] .

قال النبيّ صلى الله عليه وسلم- ويروى عن علي رضي الله عنه-: «أحبب حبيبك هوناً ما عسى أن يكون بغيضك يوماً ما، وأبغض بغيضك هوناً ما عسى أن يكون حبيبك يوماً ما». [الترمذي]

 

ومن نهيه صلى الله عليه وسلم النساء عن مجانبة الموضوعية ما جاء عن ابن عباس قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أريت النار فإذا أكثر أهلها النساء يكفرن» قيل: أيكفرن بالله؟ قال: «يكفرن العشير ويكفرن الإحسان، لو أحسنت إلى إحداهن الدهر ثم رأت منك شيئا قالت ما رأيت منك خيرا قط» [البخاري].

 

ومما يروى في ذلك: كان المعتمد بن عبّاد أحد ملوك الأندلس، أحبَّ جارية اسمها اعتماد الرميكية، وهي شاعرة أندلسيَّة، كانت جارية لرميك بن حجاج فنُسبت إليه، ثم آلَت بعده إلى المعتمد بن عباد، وكان المعتمد ملكاً جليلاً شاعراً نبيلاً، ملك من بلاد الأندلس، وأقام بالملك نيفاً وعشرين سنة، فتزوجها ووُلِد له منها، وأصبحَت ملكة بعد أن كانت مملوكة.

وذات مرة رأت بإشبيلية نساء البادية يبعنَ اللبن في القرَب وهنَّ رافعات عن سوقهنَّ في الطين، فحنَّت لأيامها الأولى، وقالت له: أشتهي أن أفعل أنا وجواريَّ مثل هؤلاء النساء، فأمر المعتمد بالعنبر والمسك والكافور وماء الورد، وصيَّر الجميع طيناً في القصر، وجعل لها قرَباً وحبالاً من إبريسم، وخرجت هي وجواريها تخوض في ذلك الطين!!

وبعد أن صارت حروب الطوائف وجاء يوسف بن تاشفين، وردَّ الأعداء، ووحَّد الدويلات الأندلُسيَّة، وتغلب على المعتمد، وملَك البلاد وقبض عليه، وسجَنه في مدينة أغمات أربع سنين.

لما وُضِع ابن عبَّاد في السجن أعرضَت عنه زوجتُه الرميكية وأهملت شأنه، فتألّم! ويقال: إنَّه لـمَّا خُلِع وكانت تتكلَّم معه مرَّة فجرى بينهما ما يجري بين الزوجين، فقالت له: والله ما رأيت منكَ خيراً قط، فقال لها: ولا يوم الطين؟! تذكيراً لها بهذا اليوم الذي أباد فيه من الأموال ما لا يعلمه إلاّ الله تعالى، فاستحيَت وسكتت.

مات المعتمد وهو في السجن سنة ثمان وثمانين وأربعمائة، وخلف ثمانمائة جارية، ومائة وثلاثة وسبعين ولداً، وماتت الرميكية في أغمات، قبل المعتمد بأيام). [ينظر: نفح الطيب من غصن الاندلس الرطيب [1/440]، الروضة الفيحاء في أعلام النساء [ص:112]، الأعلام للزركلي [1/334].

 

أحياناً تقول الزوجة لزوجها: لم أر منك يوماً طيباً أو أبيضَ، وهذا كلام مبالغٌ فيه، يجب أن يكون الإنسان واقعياً وموضوعياً، فلا تُلغِ ميزات الآخرين فتكون ملحفاً وظالماً من الذين إذا أحبّوا بالغوا، وإذا كرهوا عادوا، ليست عندهم حالة وسط، ليس عندهم سوى لونين أبيض وأسود!!

أما المؤمن الحق فوسطيٌّ موضوعي، ومن السهل جداً أن يتطرف الإنسان، أن يفرط في القسوة أو اللين، هذا لا يحتاج إلى تفكير، أما التوازن وضبط الأعصاب فهنا يتمايز العقلاء.

 

وكانت موضوعيته صلى الله عليه وسلم مدرسة تدرب فيها زوجاته الطاهرات، من ذلك:

شهادة السيدة عائشة بالسيدة زينب -ضرتها-: يوم دخلت بيتها ووقعت بها، قالت عائشةُ رضي الله عنها: (فأرسل أزواجُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم زينبَ بنتَ جَحش زوجَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وهي التي كانت تُسَامِيني منهنَّ في المنزلة عند رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، ولم أرَ قَطُّ خيراً في الدِّين مِنْ زَيْنبَ، وأتْقَى لله، وأصْدَقَ حديثاً، وأوْصَلَ للرحم، وأعظمَ صدقة، وأشدَّ ابتذالاً لنفسها في العمل الذي تَصَدَّقُ به، وتَقَرَّبُ به إلى الله عز وجل، ما عدا سَوْرَة من حَدّ كانت فيها، تُسْرِع منها الفَيئَةُ). [متفق عليه]

ومنه شهادة السيدة زينب بالسيدة عائشة -ضرتها- يوم الإفك، قالت عائشة رضي الله عنها: (وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل زينب بنت جحش عن أمري، فقال: «يا زينب، ما علمتِ ما رأيتِ؟». فقالت: يا رسول الله، أحمي سمعي وبصري، والله ما علمتُ عليها إلا خيراً. قالت: وهي التي كانت تساميني فعصمها الله بالورع). [متفق عليه]

 

3) كان صلى الله عليه وسلم يحترم زوجته:

يحترم شخص زوجته:

عن علي بن الحسين رضي الله عنهما أن صفية زوج النبي ﷺ قالت: كان النبي ﷺ معتكفاً، فأتيته أزوره ليلاً، فحدثتُه، ثم قمت لأنقلب (أي: لأرجع إلى بيتي)، فقام معي ليقلبني (أي: يصحبني)، وكان مسكنها في دار أسامة بن زيد، فمر رجلان من الأنصار، فلما رأيا النبي ﷺ أسرعا، فقال النبي ﷺ : «على رسلكما، إنها صفية بنت حيي»، فقالا: سبحان الله! فقال: «إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شراً» [متفق عليه].

 

يحترم رأي زوجته:

فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستشيرُ زوجتَه ويأخذ برأيها، كما فعل صلى الله عليه وسلم في مشورته لأم سلمة رضي الله عنها في صلح الحديبية، لما كان النبي صلى الله عليه وسلم ذاهباً إلى العمرة مع أصحابه، فمنعه المشركون، وأجروا مع النبي صلى الله عليه وسلم صلحاً، وكان من بنود هذا الصلح أن يرجع النبي عن مكة هذا العام ولا يحجّ ولا يعتمر، وكان الصحابة قد هيؤوا أنفسهم للعمرة ولدخول مكة، ولما صالَح النبي صلى الله عليه وسلم المشركين بالحديبية أمَرَهم بالرجوع، فقالوا: يا رسول الله، ألم تقل لنا إنك رأيت في المنام أننا ندخل الحرم محلِّقين رؤوسنا ومقصرين، فكيف تقول لنا ارجعوا؟! وسأل سيدُنا عمر رضي الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك، فقال له رسول الله: «نعم يا عمر، إني رأيت ذلك، ولكن لم أقل لكم أننا سندخل هذا العام».

وأمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بفكِّ الإحرام، فقال لهم -كما جاء في "صحيح البخاري"-: («قوموا فانحروا ثم احلقوا». قال: فوالله ما قام منهم رجل حتى قال ذلك ثلاث مرات، فلما لم يقم منهم أحد دخل على أم سَلَمَة -رضي الله عنها-، فذكر لها ما لقي من الناس، فقالت أم سَلَمَة: يا نبي الله، أتحبُّ ذلك؟ اخرج لا تكلم أحداً منهم كلمة حتى تنحر بُدْنَك وتدعو حالقك فيَحْلِقك، فخرج فلم يكلِّم أحداً منهم حتى فعل ذلك: نَحَرَ بُدْنَه، ودعا حالقه فحَلَقَه، فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا وجعل بعضهم يحلِق بعضاً؛ حتى كاد بعضُهم يُقتَل غماً). [البخاري]

 

يحترم كرامة زوجته:

وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قلتُ للنبي صلى الله عليه وسلم: حسبكَ من صفية كذا وكذا -تعني قصيرة-، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لقد قلتِ كلمةُ لو مُزِجَت بماء البحر لمزجَته» [أبو داود].

وعن أم سلمة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم لما تزوجها أقام عندها ثلاثاً، وقال لها: «إنه ليس بكِ على أهلكِ هوان (وفي رواية: إن بكِ على أهلكِ كرامة)، إن شئتِ سبَّعتُ لك وإن سبَّعتُ لك سبَّعتُ لنسائي» [رواه مسلم].

 

يحترم مكانة زوجته منه:

فهي زوجته ولها عليه حق المعاشرة، وقد أخرج مسلم عن ثابت عن أنس أن جاراً لرسول الله صلى الله عليه وسلم فارسياً كان طيب المرق، فصنع لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم جاء يدعوه: فقال: «وهذه؟» لعائشة، فقال: لا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا».

فعاد يدعوه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وهذه؟» قال: لا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا».

ثم عاد يدعوه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وهذه؟» قال: نعم في الثالثة، فقاما يتدافعان؛ حتى أتيا منزله.

قال ابن حجر: (إن الدعوة لم تكن لوليمة وإنما صنع الفارسي طعاماً بقدر ما يكفي الواحد، فخشي إن أذن لعائشة أن لا يكفي النبي صلى الله عليه وسلم، ويحتمل أن عائشة كانت حاضرة عند الدعوة، فلذلك امتنع من الإجابة إلا أن يدعوها، أو علم صلى الله عليه وسلم حاجة عائشة لذلك الطعام بعينه، أو أحبَّ أن تأكل معه منه لأنه كان موصوفاً بالجودة) [فتح الباري 9/ 561].

وقال النووي في شرحه على مسلم: (قالوا: ولعل الفارسي إنما لم يدعُ عائشة رضي الله عنها أولاً لكون الطعام كان قليلاً، فأراد توفيره على رسول الله صلى الله عليه وسلم).

وقال في موضع آخر: (وهذا من جميل المعاشرة وحقوق المصاحبة وآداب المجالسة المؤكدة).

 

ومما يدخل في ذلك: هذين الحديثين في صحيح الإمام مسلم لمقارنة صداق النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم (12.5 أوقية) بصَداق عامَّة النَّاس في زمنه (4 أواق):

أوَّلهما: حديث أبي سلمة عن عائشة ب: (كان صداق رسول الله صلى الله عليه وسلم لأزواجه ثنتي عشرة أوقية ونشاً...).

وثانيهما: (جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إنِّي تزوَّجتُ امرأةً من الأنصار، فأعِنِّي على مَهْرِها! فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هل نَظَرْتَ إليها، فإنَّ في عُيُون الأنصار شيئاً؟» قال: قد نظرتُ إليها، قال: «على كَمْ تزوَّجتَها؟» قال: على أربع أوَاقٍ، قال صلى الله عليه وسلم: «على أربعِ أواقٍ؟! كأنَّكم تنْحِتُونَ الفِضَّةَ مِن عُرْض هذا الجبل!! ما عندنا ما نُعْطِيك، ولكن عسى أن نبْعثَك في بعْثٍ تُصِيبُ منه»، قال: فبَعَثَ بَعْثاً إلى بني عبْس، بعث ذلك الرَّجل معهم). [مسلم]

ومن الحديثين المتقدمين يتبيَّن أن صداق النَّبي صلى الله عليه وسلم لنسائه كان ثنتي عشرة أوقية ونصفاً، في حين كانت الأواق الأربعة كثيرة على غيره، وهذا لمنزلة زوجته منه.

أما صداقه صلى الله عليه وسلم لزوجه خديجة: فقال ابن هشام: (أَصْدَقَها عشرين بَكرة). وقال البلاذري والدّمياطي: (اثنتي عشرة أوقيَّة ونشاً)، أي: ونصفاً. وقال المحبُّ الطَّبريّ: (ذهَباً).

 

يحترم مشاعر زوجته:

عن أنس رضي الله عنه قال: بلغ صفية أن حفصة قالت: (بنت يهودي)، فبكت، فدخل عليها النبي صلى الله عليه وسلم وهي تبكي، فقال: «ما يبكيك؟» فقالت: قالت لي حفصة إني بنت يهودي! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنك لابنة نبي، وإن عمك لنبي، وإنك لتحت نبي، ففيم تفخر عليك؟!»، ثم قال: «اتقي الله يا حفصة». [الترمذي والنسائي].

ومن ذلك أنه كان يتفقد نساءه صباح زواجه بغيرهنّ، يترفق بهنَّ، كما روى أنس رضي الله عنه: (شهدت وليمة زينب فأشبع الناس خبزا ولحما وكان يبعثني فأدعوا الناس فلما فرغ قام وتبعته فتخلف رجلان استأنس بهما الحديث لم يخرجا فجعل يمر على نسائه فيسلم على كل واحدة منهن سلام عليكم كيف أنتم يا أهل البيت ؟ فيقولون بخير يا رسول الله كيف وجدت أهلك ؟ فيقول بخير) [متفق عليه]

 

يحترم خصوصية زوجته:

فالزواج يصون الخصوصية بين الزوجين، ولا يستبيحها وينتهكها.

وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم الرجل أن يتخون أهله ويتطلب عثراتهم، وعن جابر قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم ان يطرق الرجل أهله ليلاً يتخونهم أو يلتمس عثراتهم» [مسلم].

قال ابن حجر في فتح الباري: (عن جابر أن عبد الله بن رواحة أتى امرأته ليلا وعندها امرأة تمشطها فظنها رجلا فأشار إليها بالسيف فلما ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يطرق الرجل أهله ليلا أخرجه أبو عوانة في صحيحه، وفي الحديث الحث على التواد والتحاب خصوصا بين الزوجين لأن الشارع راعى ذلك بين الزوجين مع اطلاع كل منهما على ما جرت العادة بستره حتى إن كل واحد منهما لا يخفى عنه من عيوب الآخر شيء في الغالب ومع ذلك فنهى عن الطروق لئلا يطلع على ما تنفر نفسه عنه فيكون مراعاة ذلك في غير الزوجين بطريق الأولى).

 

ختاماً:

هذه نقاط ثلاث مستفادة من بيت النبوة، وهي عيِّنة من ثلاثين صفة استفدتُها وجمعتُها من تعامل النبي صلى الله عليه وسلم مع زوجاته الطاهرات عليهم رضوان الله.

نسأل الله تعالى أن يرفعنا باتباع سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وأن يجعلنا في أهل سنَّته، من خيرة أمته.

 

والحمد لله رب العالمين