لا شك أن لله تعالى رسائل وعلامات يدلُّ بها عباده إليه، منها النِّعم، ومنها الابتلاءات، والعبد إذا أراد به ربه خيراً ردَّه إليه بالبلاء أو بالنعماء، فيرفعه بالشكر، ويطهّره بالصبر، ويعطيه فرصة للرجوع إليه، ولا يأخذه بغتة بتقصيره وسوء عمله، والكيّس الفطن يغتنم هذه الفرصة، فيزيد في رصيد آخرته بالصبر، فيكون ما اختصه الله به من البلاء حظاً ونعمة يدرك عظمتها في الآخرة، فعن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يوَدُّ أهلُ العافيةِ يومَ القيامةِ حين يُعطَى أهلُ البلاءِ الثَّوابَ لو أنَّ جلودَهم كانت قُرِضتْ بالمقاريضِ» [رواه الترمذي].

 

والعبد مخيَّر بعد بلائه، له حرية تامَّة وإرادة كاملة، أن يشكر ربَّه أو يكفرَه، أن يلجأ إليه ويرضى بقضائه فيكتبه الله مع الصابرين التائبين المنيبين، فيكون بلاؤه نعمة له، أو يدْبر عن ربه ويتسخط لبلائه، فيضيع الفرصة، ويقع ضحية شر نفسه، وكما قال صلى الله عليه وسلم: «فمن رضِي فله الرِّضا، ومن سخِط فله السُّخطُ» [رواه الترمذي].

 

وقد يكون البلاء رفع درجة عند الله تعالى، فليس كل بلاء بسبب ذنب، أو لتكفير سيئة، فقد يريد الله تعالى للإنسان منزلةً لا يبلغها بعِمله، فيبتليه الله تعالى ويرزقه الصبر على البلاء، فيصبر ويحتسب، فيصل بهذا البلاء إلى تلك المنزلة التي أرادها الله له، كما يقول صلى الله عليه وسلم: «إن العبد إذا سبقتْ له من اللهِ منزلةٌ لم يبلغهَا بعملهِ ابتلاهُ اللهٌ في جسدِهِ أو في مالهِ أو في ولدِهِ، ثم صبَّرهُ على ذلكَ حتى يبلِّغهُ المنزلة التي سبقتْ لهُ من اللهِ تعالى» [رواه أبو داود]، وهذا يعني أن في البلاء والصبر عليه رفع درجات عند رب الأرض والسماوات.

 

فالمأمول ممَّن ابتلاه الله ببلية أن يصبر ويحتسب، ويذكر: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10]. وأن يسألَ اللهَ تعالى الأجرَ والثوابَ عليها، ويحمده تعالى على كل حال، قال صلى الله عليه وسلم: «إذا مرض العبدُ بعث اللهُ إليه ملَكينِ، فقال: انظُروا ما يقول لعُوَّادِه؟ فإن هو إذا جاؤوه حمِد اللهَ وأثنى عليه رَفعا ذلك إلى اللهِ - وهو أعلمُ - فيقول: لعبدي عليَّ إن توفَّيتُه أن أُدخِلَه الجنَّةَ، وإن أنا شَفيتُه أن أُبدِلَه لحمًا خيرًا من لحمِه، ودمًا خيرًا من دمِه، وأن أُكفِّرَ عنه سيِّئاتِه» [رواه مالك في الموطأ]. فماذا يريد المريض خيراً من ذلك؟ أن يكرمه الله تعالى بثواب الدنيا والآخرة!

 

وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «ما من عبدٍ تصيبُه مصيبةٌ فيقول: (إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهمَّ أْجُرْني في مصيبتي وأَخلِفْ لي خيرًا منها)، إلا أجَره اللهُ في مصيبتِه، وأَخلِفْ له خيرًا منها»، قالت: فلما تُوفِّيَ أبو سلمةَ قلتُ كما أمرني رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم. فأَخلَفَ اللهُ لي خيرًا منه، رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم. [رواه مسلم].

 

وكل بلاء وقع في الدنيا فهو مقدَّر مكتوب من الله تعالى، كما قال سبحانه: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [الحديد: 22، 23]، فالمصائب مكتوبة وواقعة لا محالة، وإذا صبرنا رُزقنا أجرَها، أما إن جزعنا -والعياذ بالله- فقد حمَلنا الوزر فوقَ عذابِ البلاء.

 

وقد يغيب عن ذهن كثيرٍ منا أن المصائب والبلاء دليلُ محبة الله تعالى للعبد، فقد قال صلى الله عليه وسلم: «إنَّ عِظَمَ الجزاءِ مع عِظَمِ البلاءِ، وإنَّ اللهَ تعالَى إذا أحبَّ قومًا ابتلاهم» [رواه الترمذي].

 

وقال أيضاً: «من يُرِدِ اللَّهُ بِه خيرًا يُصِبْ مِنهُ» [البخاري]، فابتلاء الله للمرء مؤشِّر على حبه له، وعلى قدر درجة الابتلاء تكون رتبة الناجح فيه، والنجاح في ابتلاءات الله عز وجل له أجر لا يعلمه إلا هو سبحانه، وهذا شأن الأنبياء والصالحين {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ} [البقرة: 124].

 

والبــــلاء من سنن الله في خلقه، وهناك من يُبتلى بنقمة أو مرض أو ضيق في الرزق أو حتى بنعمة، وقد أقسم الله تعالى في كتابه أنه سيبتلينا بأصنافٍ من البلاءات، فقال تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة: 155، 156]. وفي هذا بشارة إلهية للصابر.

 

أضف إلى ذلك أن المؤمن يعجِّل الله له عقوبته على أخطائه ومعاصيه في الدنيا، حتى يلقى الله تعالى ما عليه خطيئة، قال صلى الله عليه وسلم: «ما يزالُ البلاءُ بالمؤمنِ والمؤمنةِ في نفسهِ وولدهِ ومالهِ؛ حتى يلقى اللهَ وما عليهِ خطيئة» [رواه الترمذي]، ويقول صلى الله عليه وسلم: «إذا أرادَ اللَّهُ بعبدِهِ الخيرَ عجَّلَ لهُ العقوبةَ في الدُّنيا، وإذا أرادَ بعبدِهِ الشَّرَّ أمسَكَ عنهُ بذنبِهِ، حتَّى يُوَافِيَ بهِ يومَ القيامةِ» [رواه الترمذي]، فتعجيل العقوبة دليلُ خير.

 

هذا، وكل أذىً يصاب به المؤمن يكفِّر الله تعالى به من خطيئاته وسيئاته، فعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يوعَك، فقلت: يا رسولَ اللهِ، إنك لَتُوعَكُ وعْكًا شَديدًا؟ قال: «أجَل، إني أُوعَكُ كما يُوعَكُ رجُلانِ منكم». قُلْت: ذلك بأن لك أجرينِ؟ قال: «أجَل، ذلك كذلِك، ما مِن مُسلِمٍ يُصيبُهُ أذًى، شَوْكَةٌ فما فَوقَها، إلا كفَّرَ اللهُ بها سيآتِهِ، كما تَحُطُّ الشَّجَرَةُ ورَقَها» [البخاري ومسلم]. فالأجر على قدر المشقَّة والتعب.

 

وفي رواية أخرى: قال صلى الله عليه وسلم: «ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب، ولا همٍّ ولا حزن ولا أذى ولا غم، حتى الشوكة يشاكها، إلا كفر الله بها من خطاياه» [رواه البخاري ومسلم].

 

هذا، ولا ينبغي للإنسان المبتلى أن يقنط من الفرَج، فكم من شدة نزلت بصاحبها فجزع لها، ونسي أن الله قادر على كشفها وسوق العافية منها، {لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ} [فصلت: 49].

 

وكذلك لا ينسى التوبة إلى الله تعالى، فهي مطلوبة من كل مسلم عموماً، ومن أهل البلاء خصوصاً، {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور: 31].

يا صاحب البلاء، عسى أن يكون هذا البلاء خيراً وأنت لا تدري، قال تعالى: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 216].

 

وفي الختام: يقول عليه الصلاة والسلام: «عجبًا لأمرِ المؤمنِ، إن أمرَه كلَّه خيرٌ، وليس ذاك لأحدٍ إلا للمؤمنِ، إن أصابته سراءُ شكرَ فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراءُ صبر فكان خيرًا له» [رواه مسلم]. فالمتصرف المطلق في الحالين (السراء والضراء) هو الله عز وجل فكيف لا نرضى ونصبر ونشكر؟!