يقول الحبيب المصطفى ــ صلى الله عليه وسلم ــ عن رب العزة في حديث قدسي: «لو يعلم المدبرون عني كيف شوقي لهم وانتظاري لغفران ذنوبهم؛ لتقطعت أوصالهم من محبتي، ولماتوا شوقا إليّ.. إذا كان هذا حالي بالمدبرين عني فكيف يكون بالمقبلين علي؟!» [هذا النقل ذكره الغزالي في الإحياء بغير سند، ولم أجده عند غيره، ولعله من الإسرائيليات، ويمكن استبداله بحديث: «قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لله أشد فرحا بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة فانفلتت منه وعليها طعامه وشرابه فأيس منها فأتى شجرة فاضطجع في ظلها قد أيس من راحلته فبينا هو كذلك إذا هو بها قائمة عنده فأخذ بخطامها ثم قال من شدة الفرح اللهم أنت عبدي وأنا ربك أخطأ من شدة الفرح» [أخرجه مسلم]
إنه الحب.. حب الله لعبده.. حب الخالق للمخلوق..
نعم.. حب الله لعبده مذ خلقه، وقبل أن يصوره..
لقد خلقه بحب.. وما نفخ فيه من روحه إلا لأنه يحبه.. وما أسجد الملائكة له إلا لأنه يحبه.. وما سخر الأراضي والسموات له إلا لأنه يحبه.. وما أرسل النبيين لهدايته إليه بعد ضلال إلا لأنه يحبه.. وما أنعم عليه بكثير من النعم ظاهرة وباطنة إلا لأنه يحبه..
هو مَن خيرُه لعبده نازل رغم صعود الشر من عبده..
هو من يتحبب إليه بالنعم رغم تبغُّض عبده إليه بالمعاصي..
هو الذي يغفر ويتوب.. وعبده عنه لاهٍ عاصٍ..
أيُّ حبٍ هذا يارباه؟! هو الذي قال للأرض والبحر والسموات حين استأذنوه ليبتلعوا ويُغرقوا ويطبقوا على عبده فقال لهم الحبيب: «دعوهم لو خلقتموهم لرحمتموهم» [ليس بحديث، ولم يُنقل عن أحد من السلف]
يا ألله.. ما أعظمك! ما أحلمك! وتزيد وتزيد على كل ما أعطيت، وتقدم "رمضان" هدية كلَّ سنة لعبدك، وأيُّ هدية! تصفد فيه الشياطين.. وتفتح أبواب الرحمات.. وتعتق فيه الرقاب من النيران.. فيه ليلة هي خير من ألف شهر.. تم فيها تواصل السماء بالأرض بنزول الوحي على خير خلق الله "محمد" بن عبد الله ـ عليه أزكى الصلاة والتسليم ـ الرحمة المهداة للناس أجمعين، ومن أدركها فقد نال الرضى وغشيته الرحمة..
لك في كل ليلة من ليالي رمضان عتقاء من النار.. القلوب لك مُفضية.. والأرواح مشرئبَّة.. لمن يُنادى عليه باسمه: أن قد ربح البيع، قد ربح البيع! وتعطي وتعطي بغير حساب..
وقد أتممت لعبدك السنة بشعبان؛ رُفِعَت فيه الأعمال، وعُرضت النتائج، وتأبى إلا أن تمنحه فرصة، تأبى إلا أن تقول له: {قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر: 53].
سبحانك سبحانك! تأبى إلا أن تفتح أبوابك ليلج عبدك إلى رحماتك، «إذا تقرب العبد إلي شبرا تقربت إليه ذراعا وإذا تقرب إلي ذراعا تقربت منه باعا وإذا أتاني يمشي أتيته هرولة» [متفق عليه].
إنه رمضان.. الزائر المحبوب مرة كل سنة.. مطهر الروح ومشعها.. فتسمو إلى مصافِّ الملائكة، وتنال "الغرفة" بما صبرت واحتسبت، وبما اجتهدت في القرب، وما سبب ذلك إلا "الحب!"
إنه الحب.. الذي تتقطع منه الأوصال لو علم به المُعْرِض..
إنه الحب الذي تزداد به دقات القلب ويتحرك اللسان لهجا بالدعاء..
إنه الحب الذي يقول فيه رب العزة: «من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إليَّ عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه، وما يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبَّه؛ فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينَّه، ولئن استعاذني لأعيذنَّه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن يكره الموت وأنا أكره مساءته» [البخاري].
وقد أعلنها رب العزة لمن يبحث عن الحب فدله عليه: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران: 31]، إنها وصفة بسيطة.. سهلة.. لا تتطلب جهداً ولا مالاً ولا سفراً ولا متاعاً.. بل مشاعر تتحرك في القلب وتتقد لتنير الدرب، وتسهل الوصال، وتحقق القرب، وتفوز بالرضى من رب السماء..
وقد قدمها ذلك الرجل الذي سأل الحبيب المصطفى ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن الساعة، فرد الحبيب المصطفى «ما أعددت لها؟» فأجاب الرجل بكل بساطة وتواضع: «يا رسول الله ما أعددت لها كبير صلاة ولا صيام ولا صدقة ولكني أحب الله ورسوله» فرد الحبيب الذي لا ينطق عن الهوى: «فأنت مع من أحببت» [متفق عليه].
نعم.. أنت مع من أحببت، فلتهنأ أيها المحب؛ فالحبيب يبشرك أنك مع الله.. أنك مع الحبيب..
أما نبض فؤادك وتنفس حباً للواحد الأحد، وأعلنها للأنام كما أعلنتها رابعة:
أحبـك حبين: حب الهوى
وحبا لأنك أهــل لـذاكـــــا
فأما الذي هو حب الهوى
فشغلي بذكرك عمّن سواكــا
وأما الذي أنت أهــل لــه
فكشفك للحجب حتى أراكـــا
فما الحمد في ذا ولا ذاك لي
ولكن لك الحمد في ذا وذاكا
بقلم : أ. رشيدة قادري