في نهاية شهر نيسان - أبريل 2020م، كان إغلاق المدارس في العديد من الدول يعطل تعلم أكثر من 73% من طلاب العالم، أي أكثر من 1.2 بليون طفل وشاب حسب اليونيسيف، وقد أفادت مؤخراً بأن (105) دول من أصل (134) دولة أغلقَت مدارسها - بما نسبته 78% - حددت موعدًا لإعادة فتح المدارس اعتبارًا من أواخر أغسطس 2020م.
إن قرار العودة للمدرسة في هذه الظروف يحمل تحدياتٍ عدَّة للسلطات وإدارات المؤسسات التعليمية والمعلمين والأولياء والتلاميذ على حدٍّ سواء، خاصة مع التغيرات السلوكية والمشكلات النفسية والاجتماعية والتعليمية التي تعرَّض لها الأبناء، فحسب دراسة أردنية تبيَّنَ أن 86% من الأطفال يعانون مشكلات نفسية وسلوكية، 25% منهم أصابهم التوتر خلال فترة الحظر الصحي، و14% أصابهم قلق وحركة زائدة، و11 % يعانون زيادة في السلوكيات العنيفة، و34% أصابهم الملل، و 2% يعانون من عدم الاستقرار العاطفي.
أضف إلى ذلك ظهور عدد من المشكلات السلوكية لدى الأطفال في فترة الحجر الصحي، مثل: النوم والاستيقاظ في وقت متأخر، وارتفاع عدد الساعات التي يقضونها مع التلفزيون وأجهزة الاتصال والألعاب الإلكترونية، إضافة إلى تعودهم على عدم الالتزام بالواجبات المدرسية والمراجعات اليومية... ومشكلات أخرى سنذكرها في مقال: (معاناة الأبناء خلف أبواب الحجر).
لذلك نقرأ عند بعض الأطفال تخوفاً من الدخول المدرسي، وعند بعضهم الآخر تتمثل ردة الفعل في انعدام الرغبة بالعودة إلى المدرسة؛ لأن العودة إلى المدرسة تعني العودة إلى انضباط بعد حركة، ودراسة بعد عطلة، وتغيير عام لبرنامج اعتاد عليه الأبناء، وقد أثبتت أزمات سابقة أنه كلما طالت الفترة التي يمضيها الأطفال دون مدرسة، كلما قلت أرجحية عودتهم إليها - حسب اليونيسيف -.
لكن قسماً آخر من الطلاب أظهروا رغبة في مواصلة التعلّم، غالباً لأنهم واظبوا على دروسهم في ظل الظروف الصعبة، بدعم من معلميهم وآبائهم وأمهاتهم.
إن "كوفيد-19" الذي يعصف بالأنظمة الصحيَّة الهشة التي تفتقر إلى الموارد الكافية، يهاجم أيضاً سبل حصول الأطفال على التعليم، وسبل كسب العيش لأسَرهم لتغطية احتياجاتهم، وشعورهم بالأمان في منازلهم ومجتمعاتهم المحلية ودولهم، ولذلك أطلقت اليونيسيف نداء لاستدراك أزمة الأطفال في ظل فيروس "كوفيد-19"، بهدف أن لا تتفاقم جائحة كورونا إلى أزمة مستدامة للأطفال.
لقد كان إغلاق المدارس في جميع أنحاء العالم خطراً غير مسبوق على تعليم الأطفال وحمايتهم وعافيتهم، ولئن كانت فترة الحجر الصحي الذي فرضَته إجراءات السلامة قصيرة نسبياً للأولياء؛ إذ تمثل أقل من عام في مسيرة حياتهم أو عمرهم الواعي، فإنها بالنسبة للأطفال مدة طويلة جداً، ومرهقة وثقيلة نفسياً واجتماعياً وتعليمياً.
من هنا يمثل فتح المدارس ضرورة للجيل، فللمدارس دورٌ أكبر بكثير من مجرد تعليم القراءة والكتابة والحساب... فهي توفر لهم خدمات وبيئات أخرى؛ وتدعم الصحة العقلية للتلاميذ وتقدم لهم الدعم النفسي والاجتماعي؛ وتحدّ بشكل كبير من مخاطر يتعرض لها المتسربون من المدرسة، ويمكن لتعطيل أوقات تقديم الدروس في الصفوف المدرسية أن يترك تأثيرات شديدة على قدرة الأطفال على التعلم.
وليس فتح المدارس بالإجراء المنعزل عن محيطه، بل يندرج ضمن عدد من الإجراءات المتعلقة بإعادة الفتح التدريجي في دول العالم، شأنه شأن إعادة فتح الدوائر الرسمية والأسواق والمصانع والنقل العام والأعمال التجارية...، وهو مضبوط بالقرارات الصحية، خاضع لتدابير الصحة العامة المتعلقة بالتعايش مع الفايروس "كوفيد-19"، لكن يجب على كل الجهات المؤثر في هذا القرار أن تتضافر جهودها لحماية الأبناء، فعلى عاتق إدارة المدرسة وكوادرها التعليمية تقع مسؤولية عظيمة في تنفيذ إجراءات السلامة، وعلى أولياء الأمور تعليم أولادهم الطرق الوقائية لتجنب العدوى في المدارس، وهذا ما سنتناوله في الكلمات اللاحقة.
كلمات لإدارات المؤسسات التعليمية:
- من واجب إدارة المدرسة أن تعمل مسبقاً على التدابير والإجراءات المساعِدة في ضمان سلامة الطلاب والمعلمين والكادر الإداري عند العودة للمدرسة، خاصة إعادة تأهيل المرافق الخدمية ومتابعة النظافة الصحية اللازمة، والإشراف على احترام البروتوكول الصحي من قبل الطلاب والأساتذة والإداريين؛ وبذلك تتمتع بثقة المجتمع في إعادة الطلاب إلى مدارسهم.
- يجب استحداث وسائل جديدة لتوفير وتنظيم التواصل الإداري مع الأولياء، فمن حق الأولياء أن يتواصلوا بشكل دوري ومتكرر مع الإدارة للاطمئنان عن أولادهم، ولئن كانت بعض المدارس تحدد يوماً كل أسبوع أو أسبوعين لمراجعة الأولياء فإنها ستحتاج هذا العام أن تحدد يومين في كل أسبوع - على الأقل في الفترة الأولى - للتواصل معهم.
- من الضروري الاتسام بالشفافية اللازمة لطمأنة الأولياء على صحة أولادهم وسلامة البيئة التعليمية التي يرسلونهم إليها، وتحضير أجوبة مقنعة وواقعية لأسئلة الأولياء المتوقعة، مثل السؤال عن:
1. خطة المدرسة للعناية بالأطفال الذين يعانون من بعض الأمراض التنفسية، وطرق حمايتهم ووقايتهم كونهم معرَّضين لدرجة خطورة أكبر.
2. سياسة المدرسة في معالجة المشكلات النفسية والسلوكية والاجتماعية التي تظهر عند الطلَبَة.
3. خطة المدرسة في الوقاية من انتقال العدوى من الطلاب الذين تظهر عليهم آثار المرض.
4. خطتها في حال تخلف التلميذ علمياً ونسيانه معلوماته قبل الاستمرار في منهاج السنة الجديدة - بعد سقوط جزء كبير من منهاج السنة السابقة -
5. خطة المدرسة لتقديم الدروس الاستدراكية ودورات المراجعة للدروس السابقة أو الدروس التعويضية، ومتى ستكون هذه البرامج التعليمية؛ بَعد انتهاء اليوم الدراسي، أم في يوم العطلة، أم على شكل وظائف تكميلية ينجزها الطلاب في منازلهم؟
6. ما الذي على الأولياء فعله إذا كان ابنهم يواجه صعوبة في العودة إلى الدراسة؟
7. ماذا الخطوات التي سيلتزمها الأولياء حال اكتشاف أعراض المرض عند ولدهم أو أحد أفراد أسرته.
- وهناك مهمة لا تقل أهمية عما سبق، وهي مطاردة الشائعات، فالبيئة الحالية هي بيئة خصبة لنمو الشائعات، وإن الطفل حين يعود بالخبر إلى أهله لا يمكنه أن يحرر مصدر الخبر، لذلك تقع على عاتق الإدارة مطاردة الشائعات ومحاسبة المسؤولين عنها، لضمان بيئة تعليمية آمنة ومريحة للطلاب.
كلمات للمعلمين والإداريين:
- المعلم هو القدوة العملية للتلاميذ في المحافظة على التباعد الاجتماعي، والتزام التعقيم، واحتواء العطاس والسعال...، ولئن لم يحترم المعلم هذه الإجراءات فإنه يعطي رسالة عملية للأبناء أن تلك الإجراءات الوقائية ما هي إلا نوع من الهراء لا طائل منه ولا نفع!
- يحتاج المعلِّم في هذه السنة خاصة أن يتمتّع بمرونة عالية لاحتواء سلوكات الأطفال وتمرُّدهم، ويحتاج لرحابة صدر لتوفير مزيد من التواصل مع أولياء التلاميذ.
- لا يمكن للمعلم أن يتعامل مع المشكلات النفسية والسلوكية والاجتماعية التي ستعترضه في قسمه مالم يرفع سويته العلمية وخبراته التربوية، وبقدر زاده من العلم والحلم بقدر ما يستجيب طلابه للعملية التعليمية بشكل إيجابي ومثمر.
- لن يستطيع المعلم وحده معالجة المشكلات التي تظهر عند التلاميذ، بل يحتاج إلى مساعدة من المرشد النفسي أو الموجه التربوي في مؤسسته.
كلمات للأهالي والأولياء:
- ثقوا بأن السلطات درسَت خيار إعادة فتح المدارس جيداً، ولم تتردد بتأخير الدخول المدرسي عند الشعور بالخطر، وعند اتخاذها لهذا القرار نظرت في الفوائد والمخاطر من ناحية التعليم والصحة العامة والعوامل الاجتماعية والاقتصادية في السياق المحلي، ثم اتخذت القرار الذي يتناسب مع المعطيات المتوفرة، وستتراجع عنه إن تغيَّرت هذه المعطيات سلباً، ولذلك فإننا نحتاج إلى الثقة في هذه المرحلة الحرجة.
- إن الخوف والقلق في هذه المرحلة طبيعي جداً، بل أكثر من طبيعي، والاستثناء أن نرى الآباء يرسلون أبناءهم إلى المدارس - بعد كل ما عاينوه في هذه الجائحة - مطمئنين مرتاحين!
لكن إبداء هذا الخوف للأبناء خطر جداً، فأبناؤنا يحكمون على الأمور من خلالنا، والحسَن عندهم ما حسنَّاه، والقبيح لديهم ما استقبحناه، وعادة ما يكون تقدير الأطفال للخطر مرتفعاً، وتقديرهم لقدرتهم على التكييف أو التعامل معه يكون منخفضاً؛ لذلك فإن الآباء والأمهات يمثلون لأبنائهم الملاذ الآمن والحِمى المصان، ولئن طال الخوف عيونَ آبائهم وأمهاتهم ولمحَ أبناؤهم ذلك، فلا يمكن التنبؤ بردة فعل الابن بعدها، خاصة إن تعرَّضت الأسرة لفقد عزيز بهذا الوباء، أو كانت تخويفات الوالدين واحتياطاتهم مبالغاً فيها، حتى تركت أثراً مرعباً لدى الابن.
لذلك على الآباء والأمهات مراعاة عدم نقل مشاعر القلق والتوتر إلى أبنائهم، ومحاولة التحلي بالهدوء والثقة أثناء تحضيرهم للعام الدراسي الجديد.
- بالمقابل؛ لا تُشعِروا أبناءكم بأنهم موضع ثقل على قلوبكم، وأنكم تريدون الخلاص منهم والراحة من كثرة حركتهم وثرثرتهم ودفعها إلى جنبات الأقسام والمدارس، هذا من شأنه أن يطعن الطفل في الصميم بعد هذه الفترة المرّة التي أمضاها في العزل الصحي.
- وطِّنوا أنفسكم لأي قرار جديد يمكن أن يكون خارجاً عن حساباتكم، فالمرحلة حرجة، والاحتمالات مفتوحة، والشيء الأكيد أن هذه السنة الدراسية ستكون مختلفة عما اعتدنا عليه من قبل؛ قد يستخدم نظام الورديات أو الأفواج لتقليل حجم الصفوف، وقد يُعاد فتح المدارس لفترة من الوقت ثم تُغلَق مؤقتاً، وفي أي لحظة ممكن أن تتغير المعطيات ونعود إلى الحجر الشديد - نسأل الله السلامة - أو يتغير النظام المدرسي حسب طاقة الكوادر التعليمية والإدارية.
- توقعوا أن تَظهرَ لدى أطفالكم سلوكات لم تألفوها، فطول فترة العطلة تركَ بصمة سلبية على نفوس الأبناء وعقولهم، وآثار ذلك ستظهر مع العودة إلى المدرسة، فيجب تقدير الأمر والتعامل معه بوعي وحلم شديدين.
- من الآن اعمل على تحضير ابنك للعودة إلى المدرسة من خلال برامج دراسية منزلية، تعيده تدريجياً إلى الدراسة والمذاكرة والحفظ، مع محاولة إرساء روتين يستند إلى وقت المدرسة والدراسة في المنزل، فمن الطبيعي أن يعاني الطفل في هذه الفترة من تراجع في قوته الإدراكية وذاكرته ونشاطه الذهني.
- حاول أن تؤهل ابنك للتعامل مع التخوف والقلق والإحباط، وأخبره أنه متوقع وطبيعي خلال هذه الفترة، وأن القلق والتوتر لن ينفعه في شيء، إنما ينفعه احتياطه ووعيه، فهو النافع في ظل انعدام اللقاح والعلاج لهذا الفايروس حتى الآن.
- حاول أن تؤهل ابنك للدخول المدرسي برفع ثقافته الصحية، وتدريبه على الالتزام بالبروتوكول الصحي: (ارتداء الكمامة أو القناع إلا في الأماكن المفتوحة؛ فيجب نزعه لاستنشاق هواء نظيف وتجنب مخاطر نقص الأكسجين، مع غسل اليدين بانتظام، وتعقيمهم باستمرار، وتجنب لمس الأسطح قدر الإمكان، والمحافظة على التباعد الاجتماعي، حتى وإن كان ظاهر زملائه السلامة، فهذا لا يعني أنهم غير حاملين للفايروس، واحتواء العطاس والسعال، والحذر منه عند الأخرين، مع تجنب التقبيل والمصافحة والعراك، وتجنب المشاركة في الأدوات والأطعمة...).
- اجتهد في متابعة أحوال ابنك مع إدارة مؤسسته التعليمية، وتواصل بشكل دوري مع معلِّمه، لتبقى مطلعاً على ما يجري، وأبلغهم إذا كان طفلك يعاني مشكلات أو يواجه تحديات محددة، كالحزن بسبب فقْد عزيز، أو القلق الزائد بسبب الجائحة.
- وكذلك حاول التواصل مع الأسَر الأخرى التي فيها أتراب ابنك وأقرانه، لتطَّلع على أحوال أبنائهم وتستفيد من تجاربهم.
- من الضرورة بمكان أن تستجيب لأسئلة ابنك وهمومه بطريقة فاعلة وإيجابية، وتجري معه محادثات مفتوحة حول ما يثير قلقه، وتخبره بأن مشاعره هذه طبيعية ومقدَّرة، وأن تدابير السلامة المعمول بها داخل المدارس للحفاظ على صحة الطلاب والمعلمين فاعلة ومدروسة.
- تجنب الحديث أمام ابنك عن الصعوبات التي سيواجهها التلاميذ خلال هذا العام الدراسي، بل حاول أن تبدي له الدعم والمساندة، وتفتح له أبواب الأمل، وتذكِّره بالجوانب الإيجابية، مثل رؤية الأصدقاء والمعلِّمين، واكتساب المعارف والمهارات الجديدة...
- وطّن نفسك للتعامل مع صعوبة تأقلم ابنك مع الإجراءات التي لم يتعود عليها، وردَّات فعله تجاه الوضع الجديد، والتي قد تتمثل في موجات من القلق والتوتر، ونوبات الغضب والرفض، والبكاء المتكرر، وعدم الرغبة بتفعيل العلاقات الاجتماعية، وعدم القدرة على التركيز في القسم، وعدم التعاون مع المعلمين، والعدوانية والانطواء...
- حاول تعزيز مناعة ابنك من خلال الأطعمة الصحية، ومنحه قسطاً كافياً من النوم، ومساعدته على إدارة التوتر والقلق، وممارسته للنشاطات الرياضية، والتزام العادات الصحية، وتذكر أن هذا لا يعني أنه في مأمن من العدوى أو نقل الفايروس، لكنه مهم وضروري لدعمه في مواجهته.
ختاماً:
العودة إلى المدرسة ضرورة، ولئن كان الضرر في المدرسة محتملاً، فإن ضرر الابن بالتغيُّب عن مدرسته وبقائه في حَجره محتَّم أكيد؛ نفسياً وسلوكياً وعقلياً واجتماعياً وتعليمياً... لذلك، لابد من العودة إلى المدرسة مع كثير من الحذر والأمل، والاستعانة بالله، والثقة بأنه لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا.
المراجع:
مقال: (نداء أزمة الأطفال في ظل فيروس كورونا) المنشور على موقع اليونيسيف unicef.org
إطار لإعادة فتح المدارس، صادر عن اليونسكو واليونيسف والبنك الدولي وبرنامج الأغذية العالمي.
مقال: (كيف ستكون العودة إلى المدرسة في جائحة كوفيد-19؟) المنشور على موقع اليونيسيف unicef.org
دراسة أعدتها اللجنة الدولية الكاثوليكية للهجرة خلال شهري 3-4/2020م، نشر بعضها موقع الغد الأردني alghad.com.