الدماغ البشري أعقد آلة في الكون، وهو ينسجم معه في قوانينه العامة (السببية، والغائية، ومنع التعارض)، كذلك يشترك معه في التنظيم الدقيق، والسَّعة وترامي الأطراف، والتأثُّر والتأثير بكل ما أحاط به وشاكله.
بين الوعي واللاوعي، والذاكرة المؤقتة والذاكرة الدائمة، ورحلة استيعاب المعلومات وتشفيرها أو ترميزها وتخزينها.. يضيع عدد من أبنائنا؛ إذ تدخل المعلومة مع مجموعة فوضوية من البيانات المرافقة، لا تأخذ حقها من التركيز الواعي، ولا الترتيب المنهجي، ثم يضعها الدماغ في بقعة ما من الفضاء الداخلي، ليؤثر ذلك بعدُ على استرجاعها وقت الحاجة إليها.
في (الجزء الأول) من هذا المقال ذكرنا عشرة طرق لإدخال المعلومة إلى الدماغ:
1) الاهتمام أساس الحفظ
2) ذاكرة الحواس
3) التذكر بالكتابة
4) التذكر بالرسم
5) التذكر بالتمييز
6) التذكر بالتلوين
7) التذكر بالقصة
8) التذكر بالصورة
9) التذكر بالربط
10) التذكر بالإضافة
وهنا نذكر عشرة أخرى تعمل كلها على حفظ المعلومة بشكل واعٍ، منظَّم، وممتع.
11) التذكر بالغناء
علماؤنا الأوائل اختصروا العلوم في أراجيز - قصائد شعرية على بحر الرجز -، تسمى: "منظومات العلوم"، وكأنَّ العلمَ كلَّه بقواعده وتنبيهاته وأصوله وفروعه يوضَع في هذا القالب، ليسهُل على الطالب حفظه ومراجعته.
مثلاً: ابن مالك وضع ألفيته في النحو والصَّرف، وفيها:
كلامنا لفظٌ مفيدٌ كاستقمْ |
|
واسمٌ وفعلٌ ثمَّ حرفٌ الكلم |
وابن الجزري وضع المقدمة الجزرية في التجويد، وفيها:
مخارج الحروف سبعة عشر |
|
على الذي يختاره من اختبر |
والبيقوني وضع المنظومة البيقونية في مصطلح الحديث، وفيها:
وذِي مِنَ أقسَامِ الحديث عدَّة |
|
وكُلُّ واحدٍ أتى وحدَّه |
ووضع السعدي منظومته في القواعد الفقهية، وفيها:
قاعدة الشريعة التيسير |
|
في كل أمرٍ نابَهُ تعسير |
وإبراهيم اللقاني وضع جوهرة التوحيد في العقيدة، وفيها:
وَوَاجِبٌ إِيمَانُنَـا بِالْقَـدَرِ |
|
وَبِالْقَضَا كما أَتَـى فِـي الْخَبَـرِ |
هذا غيض من فيض... ، فاستعن بالنغم والإيقاع في أثناء الحفظ، لا تعدَّ ذلك لعباً ولا خفَّةَ عقل، بل هو طريق جيد لتثبيت المعلومة بأسلوب ممتع..
12) الحفظ بالتكرار
التكرار.. يعلِّم الشُّطَّار
هناك معلومات لا يمكن حفظها إلا بالتكرار، أسماء الأشياء (مقدرة الفصل الفلكية، الفاصمة المنصهرة الكهربية، زهرة الكادابول...)، أسماء الذرَّات: (بيريليوم، بورون، سكانديوم، كوبالت..)، والأدوية: (أوميبرازول، سيتالوبرام، مينوكسيديل، ديكلوفيناك..)، والأرقام: (05/03/1837م - 14 صفر 768هJ)... ومثله حفظ بعض الأسماء، والكلمات البسيطة - وليس المركبة - من لغة أخرى... كل ذلك يحتاج إلى استظهار "بصم"، أما الأسباب المنطقية لحربٍ ما، والوظائف العمليَّة لعضوٍ ما، والمبدأ الذي تعمل به بعض الآلات... فتحتاج إلى "فهم".
الحقيقة المؤسفة أنه لا بد من الحفظ في كثير من الأحيان، ولا يوجد طريقة إلى الفهم! كثير من المعلومات يلزم اتباع قاعدة: "ما لم أفهمه سأحفظه!" ومع أنها عملية صعبة، جافة، لكنها مثمرة عند كثير من الناس، ولكن هي -للأعمّ الغالب - طريقة غير ناجحة على المدى الطويل؛ لأن المحفوظ بالتكرار سريعاً ما يتم نسيانه، ويبقى الأصل أن فهم الأمر أولى من حفظه، ولتتأكد من ذلك جرب أن تحفظ ما يأتي:
(فاء، سين، ياء، كاف، فاء، ياء، كاف، هاء، ميم، ألف، لام، لام، هاء)
حاول أن تحفظه بالترتيب.. كم من الوقت سيأخذ؟
جرب أن تفهمه بطريقة الجمع، أو الربط، يخرج لك على صورة: {فسيكفيكهم الله}
اليوم هناك بعض الجامعات لا تكترث بالأمور التي تحتاج فعلاً إلى حفظ، تركِّز على زاد الطالب من الفهم، لذلك تقيم امتحاناتها على شكل يمكّن الطالب من اصطحاب الكتاب معه إلى قاعة الامتحان، لكنه لن يعرف الإجابة إذا لم يكن قد فهم المبدأ الذي يُدرسه الكتاب.
قد يهمك: [المرافقة المنزلية ودورها في النجاح المدرسي]
13) الكلمات المفتاحية
بعض المعلومات أو التعدادات أو المحفوظات يمكن أن تربط بين أجزائها بكلمات مفتاحية، تساعد ذهنك على استذكار ترتيب المعلومات، مثلاً:
{وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذَابَ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُو مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [النحل: 85 - 87]
لاحظ كلمة "رأى" كلمة مفتاحية في الآية الأولى تمهِّد للآية الثانية، وكلمة "ألقوا" كلمة مفتاحية في الآية الثانية تذكِّرك بمجرد نطقها بمطلع الآية الثالثة.
وقل مثل ذلك عن الشعر، والنثر، والنصوص، والحوارات المحفوظة...
14) الحفظ حسب الأولوية
أول نقطة ذكرناها أن "الاهتمام أساس الحفظ"، طالما أن دماغك يعي أولوية الشيء المراد حفظه فقد هيأ لك الأرضية الجيدة لبناء ما تريده من المحفوظ، فابدأ به، ثم انتقل إلى غيره.
- حفظ نص أدبي سيتم امتحانك به غداً.
- مراجعة معادلة رياضية مطلوبة في اختبار الشفهي.
- استكمال فهم فكرة لم تتضح في درس اليوم، ولا زال دماغك يحاول إكمال صورتها.
- استكمال حفظ فقرة؛ بدأت بحفظها ولم تُكمِل بعد، لها أولوية على ما لم تبدأ بحفظه بعد.
15) الحفظ حسب الترتيب المنهجي
اتفقنا منذ البداية أن "الدماغ البشري أعقد آلة في الكون، وهو ينسجم معه في قوانينه العامة، كذلك يشترك معه في التنظيم الدقيق).
إدخال المعلومات منظّمة مرتّبة ممنهجة يعين الدماغ على الحفظ، ومن ذلك ترتيب الحفظ منهجياً، بأن تبدأ الحفظ بالطريقة الكلية المجمَلة ثم تنتقل بعدها إلى التفاصيل، من العام إلى الخاص، من الكلِّي إلى الفرعي، من الأقدم إلى الأحدث....
بعض المعلومات لا تحتاج أكثر من إعادة ترتيب بشكل منهجي أو منطقي أو تاريخي.. لتستقر في الذهن، ولا معنى - إذ ذاك - بالتزام الترتيب الوارد لها في الكتاب المدرسي، إن لم يتوافق مع منهجيتك الخاصة.
قد يهمك: [أنا وابني والامتحان]
16) الحفظ بالتقسيم
ممكن تقسيم التعدادات الطويلة إلى مجموعات متشابهة أو مترابطة، وحفظ كل مجموعة على حدة.
ممكن حفظ القرآن الكريم بالتقسيم (حفظ صفحة يومياً، مراجعة ربع حزب يومياً).
ممكن تقسيم القصائد الشعرية إلى مجموعات من ثلاثة إلى خمسة أبيات، وصياغة الروابط الخاصة بكل مجموعة، والكلمات المفتاحية بين المجموعات بالترتيب.
17) الحِفظ التراكمي:
هذه الطريقة تقوم على مبدأ التكرار والتقسيم معاً، بحيث يتم حفظ سطر من المعلومات، وتكراره عدّة مرات حتى يُستظهَر، ثم الانتقال إلى ما بعده، ثمّ تكرار جميع ما تمّ حفظه مجدداً دون النظر إلى النص.
بعد فاصل زمني ما، يتم تكرار المحفوظ السابق، قبل استظهار المحفوظ الجديد، ثم البدء بالقسم الجديد بنفس الطريقة.
في هذه الطريقة ستبدأ من أول القصيدة الشعرية في كل مرة تريد حفظ قسم منها.
ستبدأ من أول السورة في كل مرة تريد حفظ آيات منها، ولعل هذا ما يفعله كثير منا، ويلمس نتيجته برسوخ أوائل السور ومطالع القصائد.
وبالمناسبة: هذه الطريقة كان يستخدمها أستاذ اللغة العربية في ثانويتي في حفظ القصائد الطوال، وفعلاً.. كانت ممتعة ومجدية.
قد يهمك: [آليات التفوق]
18) الحفظ بالحب
من دلَّكَ على التكرار فقد أتعبَك، ومن دلَّكَ على الحبِّ فقد أراحك!
حين تحب مادة معينة، ويحب الطالب أستاذه، وتحب الفتاه معلِّمتها، فلا شك أن هذه المحبة تعين الدماغ على قبول المادة، وهضم المعلومات المضمَّنة فيها، وتخزينها بشكل جيد.
إن أردتَ أن تحبَّ أستاذاً فقدِّم له هديَّة، شارك في درسه، انتبه لما يقول، اسأله واستفسر منه على انفراد بعد الدرس، اكتب واجباتك... ستجد أنك ستحبُّه قبل أن يحبّك..
إن أردتَ أن تحبَّ مادّة فابحث عن الشيء الممتع الذي يصادفك فيها، المعلومات التي تتقاطع مع هواياتك أو اهتماماتك، واكتبه في كراس صغير خاص بهذه المرحلة تراجعه مع الأيام، ستجد ذلك ممتعاً حقاً.
طبعاً أنا لا أتكلَّم عن مادة تُبغضها في الله :) ، أو أستاذ تكرَه ظلمَه وعنفه ورداءة أسلوبه وضحالة معلوماته في مادته.. فهذا أنصحك بالتعايش معه لا بمحبته :)
قد يهمك: [أبناؤنا بين الحجر والمدرسة]
19) الحفظ بالتجريب
يمكن تقسيم المهام التعليمية إلى نوعين:
- المهام النشطة: مثل المهمات البرمجية أو تركيب مجسمات أو أي نشاط آخر يدفعك لاستخدام يديك أو قدميك أو عدّة حواس أخرى في وقت واحد.
- المهام غير النشطة: مثل القراءة والمشاهدة الاستماع والتلقين، وهذا النوع لا يحتاج سوى الجلوس ساكناً بلا حراك. الأمر الذي يجعل الطالب عرضة للتشتت والتفاعل مع أي مؤثّر خارجي ينقذه من عملية الانتباه والتركيز المتعبة.
ولأن الدراسة في معظمها تعتمد على النوع الثاني من المهام، فيجدر بالطالب أن يُدخل بعض التعديلات والإضافات النشطة عليها، كتسجل الملاحظات الجانبية، والشروح التوضيحية، وتدوين أهم الأفكار التي يصطادها أثناء قراءة كتاب أو استماع محاضرة، ولا مانع من الاستفادة من الوسائل الحديثة، كاستخدام تطبيق الملاحظات، أو تسجيل الدرس بالجهاز المحمول، أو تصوير السبورة بكاميرا الجوال، أو البحث في شبكة الإنترنت عن معلومات إضافية شارحة... فهذا كله يعين الدماغ على تخزين المعلومات بشكل أفضل.
أما العمليات الحسابية والمعادلات الرياضية، والأشكال والقواعد الهندسية، والتجارب الكيميائية والفيزيائية... فهي تجريبية بالفطرة :) ، ولن يرسخ شيء منها من دون تجريب، ومحاولة، وخطأ.
20) أبدع طرقك الخاصة
دماغك يعرفك وتعرفه، يفهمك وتفهمه، ولا شك أن لك طرقك الخاصة في إدخال المعلومة إلى صندوقك الأسود..
أنت أعلم بما يُمتِعك من الأساليب التعليمية، فاصنعه، والزمه، ولا تبخل على نفسك به.
قد يهمك: [على طريق البكالوريا]
هذه عشرة طرق لإدخال المعلومة إلى الدماغ بشكل واعٍ، منظَّم، وممتع، سبقتها عشرة أخرى في (الجزء الأول)
أسأل الله تعالى التوفيق والتيسير للجميع