بسم الله الرحمن الرحيم

 

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد سيد الأولين والآخرين، وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين، وبعد.

أحييكم سادتي الأفاضل بتحية الإسلام، السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.

أحب لقا الأحباب في كل ساعة
لقد نبتت في القلب منكــــم محبة

 

لأن لقا الأحباب فيه المنافعُ
كما نبتت في الراحتين الأصابـعُ

 

لم يطرق سمعي عنوان هذا اللقاء الطيب المبارك: (دور مجاهدي القادرية في مقاومة الاستعمار ومواجهة رهانات المستقبل) حتى سمعتُ صدى المستقبل يتردد في عقلي..

المستقبل!!

ألم يضمن الله لنا المستقبل؟!

ألم يأمرنا بالتوكل عليه والتسليم لأقداره؟!

لماذا نفكر في رهاناته؟

وهل نضمن العيش لبلوغه؟

أليس هذا من استباق الأقدار والتألي على الله؟!!

 

قد تعجبون..!!

وكل منا الأن تتوارد إلى ذهنه الأدلة التي تدحض هذا الكلام وتجرده عن لَبوس المنطقية والموضوعية ناهيك عن الشرعية والصحة العقدية.. لكن في الحقيقة هذا التفكير يسيطر إلى حد ما على جزء لا بأس به من اللاوعي عند كثير من المسلمين!

 

عدد من الفلسفات المتخلفة الباطلة شاعت وعمَّت لدى كثير من العامة والخاصة، ولُويَت أعناق النصوص وغُيرت حقائقها وتمحورت في أحاديث كثير من الدعاة، ورسخها المتجبرون والطغاة لما تُقدِّم لهم من خدمات.. تجلت إيماناً بقدَر مشوَّه، يشل حركة المسلم، ويسيطر على كيانه ومحاكماته..

فقيل له: إن نجاحك وفشلك، حياتك وموتَك، صحتَك وسقمك... كل ذلك مقدَّر عليك قد جرى به القلم، وما عليك إلا أن تستسلم لقدرك، فالزواج (قسمة ونصيب)، ومن مات بجرم أو طيش (انتهى عمره)، والذي يتجرع المسكرات والمخدِّرات (مبتلى مسكين، عاجز عن التغيير)، ومن سُلِب ماله (فهو ليس من نصيبه ولا قسمته، وربما يكون دفع بلاء عنه)، ومن وقع بسوء تخطيطه قيل له إن (الله ما وفقه)، ومن لم يُحكِم خطته ويُتقن صنعتَه يقول (عملنا ما علينا والباقي على الله)..

المهم: نحن لا دخل لنا، كلٌّ من عند الله، "الله غالب"..!!

 

بمثل هذه الفلسفات الجبانة بلغت هذه الأمة ما بلغَت من التخلف والضعف والتبعية، وضحكت من جهلها الأمم، وأهلكها الاستعمار الذي عزز فيها هذه الرؤية وأداً للمقاومة والمواجهة، وإرضاءً به كقدر نازل، فخرج من الأمة فئات معتوهة وأطياف غلاة مشبوهة، اتخذت الجهل منهجاً، والحمق مخرجاً.. أساءت لها ولنا وللدين.

 

وإذا ما أردنا أن تقومَ لنا قائمة لزِم أن نرجع إلى الفهم الصحيح للدين والحياة، ونقرأ قوانين الله في أرضه، ونعمل بالأسباب والمسببات متوكلين على الله، ونحرص على ما ينفعنا، ونثور على الموروث الفكري المشوَّه الذي يعيقنا عن التقدم، ونعيد النظر في مسلَّماتنا الخاطئة، ونفتح آذان عقولنا ونستشير قبل أن نغمض عيوننا لنستخير، وإلا.. فمآلنا إلى أوخم مصير.

 

وهذا بحد ذاته يشكل رهاناً من رهانات المستقبل، أن يعمَل أهل الله في أرضه على تبصير عباده بالحق، وإماطة الأذى عن عقولهم، وتجديد الدين في فكرهم وسلوكهم، ويأخذون الدور المحمدي المشار إليه بقوله عليه الصلاة والسلام: «إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها» كما روى أبو داود والبيهقي بسند صحيح.

 

تعالوا نقف معاً عند قوله عليه الصلاة والسلام: «من يجدد لها دينها»، محال أن يكون المقصود بذلك هو تجديد الخطاب الديني وحسب، ولا اتباع الطرق الحديثة في الدعوة إلى الله وسلوك السبل العصرية لإيصالها إلى المدعو، وإنما المقصود تجديد الدين أصلاً، بإبراز أصوله وثوابته على حقيقتها وجوهرها، وتنقيتها من الشوائب التي لحقت بها، بأن ينتفي عنه تحريفُ الغالين وتأويلُ المبطلين، ويعود في عقول المسلمين متألقاً متلألئاً كما أراد الله وأنزل.

 

رهانات المستقبل.. لا أظن فلاحاً في مواجهتها من دون تخطيط دقيق، تتم فيه دراسة الاحتمالات، ووضعُ الخطط الأصيلة والبديلة والنظرُ في المآلات، والتماس التوفيق من الله تعالى بحسن حَبْكِ الأمور، وقتلها بحثاً ودرساً من كل جانب، ودراسة نقاط الضعف والقوة، والفرص والمخاطر، ثم بعد ذلك يكون سؤال الله تعالى السدادَ والرشاد.

 

ولسائل أن يسأل: لماذا اللجأ إلى الله بعد الدراسة والتخطيط؟

 

فأقول: قدَر الله: أنه خلقنا من ضعف، فعجزنا عن الإحاطة بعواقب الأمور كلِّها، وكان لا بد من خسائر حتى نحيط بالحياة خبراً.. وإلى ذلك الحين.. نرى اللطف يحفنا على ضعفنا وجهلنا وقصور فهمنا وهِمَمنا.. فالمقسوم لنا لخير، والممنوع عنا لخير..

ونحن نقدم الأسباب.. ثم نعتمد على خالقها لتحصيل النتائج، وإن وقع الخلل أعدنا النظر في الأسباب وصححنا خط المسير {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 216].

ولذلك ترانا نقول عندما نخفق في أمر ما.. "قدّر الله وما شاء فعل" ، مع أننا نحن من خطط ونفذ!! ثم أخفق..

 

من هنا يبرز دور اللجأ إلى الله تعالى، وتظهر أهميته، وإن كان الأمر من دونه مقامرة، لكن الاكتفاء به وحده مغامرة.

 

يقول شيخنا الشيخ محمد الغزالي عليه رحمة الله:

إن الأدعية أشبه بالأناشيد الحماسية التي تثير عواطف الركب السائر، فهي ليست جؤار القاعدين ولا أماني الهامدين، بل هي أمداد دافقة من الحق والضياء واليقين، يتغلب بها البشر على مشكلات العيش ومضايق الأيام..

ثم هي تحديد للمعاني التي يصح التمسك بها والتقلب في جوها، وهي معان قوامها عقد العزم على العمل في ظل الإيمان والعافية والعدالة، وفي ظل الكبرياء على مشاغل الدنيا ومحرجاتها الجمة، وبهذا المنهج يطيب المرء روحا وبدنا، ويكتمل دينا ودنيا.

بعض الناس يتصور أن الدعاء موقف سلبي من الحياة، أليس عرض حاجات وانتظار إجابة؟!

يوم يكون الدعاء كذلك -لا يعدو ترديد أماني، وارتقاب فرج من الغد المجهول- فإن الدعاء يكون لغواً، ولا وزن له عند الله.. إن الدعاء أولاً تحديد وجهة، ورسم مثل أعلى).

 

سادتي الأفاضل:

إن مدير هذا الكون ومالكه.. ارتضانا لواحد من أكثر الأدوار أهمية في الحياة، فجعلنا خلفاءه في الأرض: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30]، واستعمرنا في أرضه: {هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} [هود: 61]، واستودع فينا قدرات ومؤهلات هائلة تمكن الواحد منا من القيام بهذه المهمة على خير وجه..

 

{وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} [الإسراء: 70]، وأي كرامة له تفوق أن أعطاه الله بدناً نفخ فيه من روحه، وزينه وزانه بالعقل والفهم، ثم كساه ثوب الإرادة المطلقة، ، فأعطاه مطلق حرية التصرف ضمن الوقت المتاح، وقد أعلمه سبحانه بقوانين اللعبة، ومراقبة الأداء بمنتهى الدقة، ليحاسبنا بعد ذلك ثواباً أو عقاباً.. إما مرتبة فوق الملائكة، وإما منزلة دون الشياطين..

 

فالسعيد من عرف قدره.. ومضى كما يليق به مما أراد له، والشقي من التجأ لذاته، واكتفى بفلسفاته، وألقى الحبل على الغارب، وخاض اليمَّ بلا قارب، فإذا ما عتى الموج لا ينجيه الدعاء، بل تنجيه معرفة السباحة..

مواجهة رهانات المستقبل.. حسنُ حَبْكِ الأمور، ووضعُ الخطط الأصيلة والبديلة والنظرُ في المآلات، والتماس التوفيق من الله تعالى.. خطوات كان لا بد منها في مقاومة الاستعمار، هدى الله إليها قوماً، نسأل الله تعالى أن يتقبل منهم، ويحشرنا في زمرتهم.

 

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.