تخيل أن تدخلَ رمضان، وفي ليلته الأولى وقبل أن تصومَ نهارَه، تبلغْ مُناك، ويكتبك الله في أهل الجنة ويَعتقكَ من النار! 
قال رسول الله ﷺ: «إذا كان أولُ ليلة من شهر رمضان: 
1) صفِّدت الشياطين، ومَرَدَة الجنِّ
2) وَغُلِّقَت أبواب النار، فلم يُفتح منها باب.
3) وَفُتِّحَت أبواب الجنة، فلم يُغلَق منها باب. 
4) وينادي منادٍ: يا باغي الخير أقبِل، ويا باغي الشرِّ أقصِر.
5) ولله ‌عتَقاء ‌من ‌النَّار، وذلك كلَّ ليلة»
[أخرجه الترمذي وابن ماجه بإسناد جيد] 
مراراً ما قرأت هذا الحديث في شهر رمضان، وفتح لي أبواب الأمل في شهر الخير والعتق، لكني للمرة الأولى أقف عند قوله: «وذلك كلَّ ليلة» وقفة المتدبر قبيل رمضان! 
الله أكبر! كل ليلة؟! يعني من الليلة الأولى في شهر رمضان يبدأ عدَّاد العتق من النار يعمل! لعله لم يتوقف يوماً.. قال العراقي: (الظاهر أنه أراد ‌كل ‌ليلة من ليالي شهر رمضان، ويحتمل أن يراد في ‌كل ‌ليلة من السنة كلها، ويتضاعف ذلك في رمضان) [قوت المغتذي للسيوطي].

المهم.. تخيَّل أن تكون منهم! تخيل أن تدخلَ رمضان، ومع دخول ليله الأول، وقبل أن تصومَ نهارَه، تبلغْ مُناك، ويكتبك الله في أهل الجنة ويَعتقكَ من النار! 
من الليلة الأولى! في رمضان تأتي الليالي قبل الأيَّام، لأن رمضان يدخل مع أذان المغرب في آخر أيام شعبان، لتبدأ لياليه المباركة قبل أيامه.. 

كلُّنا ندخل الشهر، لكن لسنا جميعاً ننال العتق فيه، ناهيك عن العتق في غرَّته، «كل الناس يغدو، فبائع نفسه ‌فمعتقها أو موبقها» [مسلم وأحمد]

إن أعتقه الله تعالى أول الشهر، فماذا ينتظره ليلة القدر؟ وماذا له آخر الشهر يوم يعطي الله الجوائز صبيحة الفطر؟ 

 

تفكرت في أولئك الناجين المعتوقين في غرَّة رمضان، ما سرُّهم؟! ما صفتهم؟! هل يمكن أن نكون منهم؟! 

- لعل السرُّ في ذلك - والله أعلم - يرجع إلى صدقِ النوايا، وصِحَّة العزائم، وصَفاء القلوب وتقواها..

- لعله يرجع إلى سلامة التوحيد، وحُسن الصلة بالمولى على الدوام، ونيل العتق بمجموعة من الطاعات كلَّلتها بركة الصيام. 

- ربما بالاستعداد الجيِّد لرمَضان في رجب وشعبان وما قبلَهما، وتحضير البرامج العباديَّة لنهار رمضان وليله.

ربما كان ﷺ يصوم في رجب وشعبان ليعلمَنا ذلك ويجهِّزنا لذلك، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: لم يكن النبي ﷺ ‌يصوم شهراً أكثرَ من ‌شعبان، فإنَّه كان ‌يصوم ‌شعبان كلَّه، كان ‌يصوم ‌شعبان إلا قليلاً، وكان يقول: «خذوا من العمل ما تُطيقون، فإنَّ الله لا يَمَلُّ حتى تَمَلُّوا» [البخاري ومسلم].
وفي رواية قالت: «كان رسول الله ﷺ ‌يصومُ حتَّى نقول: لا يُفطِر، ويُفطِر حتّى نقول: لا ‌يصوم، فما رأيتُ رسول الله ﷺ استكمَل صيامَ شهرٍ إلا رمضان، وما رأيتُه أكثر صياماً منه في ‌شعبان» [البخاري ومسلم]. 
وكان بعض السلف يقول: (شهرُ رجب شهرُ الزرع، وشهر شعبان شهر السَّقيِ، وشهر رمضانَ شهرُ الحصاد) [الغنية، للجيلاني] 
إن القوم يزرعون من رجب.. ونحن ننتظر!

 

وأفضل الزرع فيما رأيت: 
- أولاً: إصلاح الحال مع الله: بالتوبة من معصيته، والاستجابة لأمره، وبذل الوسع في العمل الصالح. 
- ثانياً: إصلاح الحال مع النفس: برفع الهمة، وتطهير القلب، وتزكية الأخلاق... حتى يتوافق الظاهر والباطن
- ثالثاً: إصلاح الحال مع الناس: برد الحقوق المادية، والمعنوية.

 

هذا حال المسارعين السابقين الأولين، أما عامة المسلمين من أمثالي فيفتح الشيطان له في شعبان باب التمنِّي، ويؤمله برمضان، فيتوانى ويغترّ ويستغرق في سباته حتى يبول الشيطان في أذنيه ويجري منه مجرى الدم، فإذا أراد الإفاقة مع مطلع رمضان أخّره هواه وأثقلَته عادته وإدمان كسَله، فتمضي غُرة الشهر ولا يجد له بين قوافل الصالحين مستقراً! خلّفه الأوائل واغترفوا من الخير والخيرات! والموفَّق من أسرع اليوم بالمسير قبل أن تسبقه قوافل المجتهدين، فإن همَّة الغد بركة همَّة اليوم، قال ابن القيم: (من ثواب الهدى الهدى بعده، ومن عقوبة الضلالة الضلالة بعدها) [مدارج السالكين]، ﴿وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ﴾ [محمد: 17]. اهتدوا ابتداءاً، فنالوا التقوى جزاءً، وما هدف الصوم إلا هذا ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ ‌لَعَلَّكُمْ ‌تَتَّقُونَ﴾ [البقرة: 183].