مداخلة الدكتور أحمد رباح في الجلسة الحوارية رفيعة المستوى، بعنوان:

تعزيز استقرار المؤسسة الزوجية
انطلاقاً من الأدلة العلمية والشراكة البحثية، لدعم السياسات والبرامج التدخلية

ضمن أعمال مؤتمر: "الأسرة والاتجاهات الكبرى المعاصرة" 
إحياء للذكرى الثلاثين للسنة الدولية للأسرة 

- معلومات لوجستية:

  • مكان الانعقاد: مركز قطر الوطني للمؤتمرات، الدوحة.
  • تاريخ الانعقاد: 30 - 31 أكتوبر 2024 م.
  • اللغة المستخدمة: اللغة العربية - الإنجليزية.
  • رئيس الجلسة: الدكتور طارق الأنصاري، سفير دولة قطر بالقاهرة، والمندوب الدائم لدولة قطر بجامعة الدول العربية.
  • المتحدثون:
  1. الشيخة حصة بنت حمد بن خليفة آل ثاني.
  2. د. مايا مرسي، وزيرة التضامن الاجتماعي في دولة مصر.
  3. د. أمثال الحويلة، وزيرة الشؤون الاجتماعية وشؤون الأسرة والطفولة في دولة الكويت.
  4. د. هيفاء أبو غزالة، الأمين العام المساعد، رئيس قطاع الشؤون الاجتماعية في جامعة الدول العربية.
  5. د. أحمد رباح، خبير في مجال تأهيل المقبلين على الزواج، مستشار أسري لدى التلفزيون العمومي الجزائري.
  6. د. أحمد عارف، مدير التخطيط والمحتوى، معهد الدوحة الدولي للأسرة.

*     *     *

- نص المداخلة: 

مقدمة ترحيبية:

سعادة الدكتور طارق الأنصاري، رئيس الجلسة، سفير دولة قطر لدى جمهورية مصر العربية، والمندوب الدائم لدى جامعة الدول العربية.

سعادة الشيخة حصة بنت حمد بن خليفة آل ثاني.

معالي الدكتورة مايا مرسي، وزيرة التضامن الاجتماعي في مصر.

معالي الدكتورة أمثال هادي هايف الحويلة، وزيرة الشؤون الاجتماعية وشؤون الأسرة والطفولة في الكويت. 

سعادة السفيرة الدكتورة هيفاء أبو غزالة، الأمين العام المساعد، رئيس قطاع الشؤون الاجتماعية في جامعة الدول العربية.

الدكتور أحمد عارف، مدير التخطيط والمحتوى، معهد الدوحة الدولي للأسرة.

السادة الضيوف الكرام بجميل أسمائهم وكريم ألقابهم وعالي مراتبهم..

إخوتي الأساتذة والدكاترة المشاركين والمشارِكات..

السادة القائمين على تنظيم وإدارة هذه الفعالية..

الحضور الكرام: أسعد الله أوقاتكم بكل خير.

أنا سعيد أن أكون من المشاركين في هذه الفعالية العامرة بكم، وأود أن أعرب عن الشكر الجزيل والتقدير العالي للرعاية الكريمة وللحضور رفيع المستوى، ولكل الجهود المبذولة في تنظيم وإنجاح هذه الفعالية الاستثنائية، وكلِّي أمل أن تنعكس إيجاباً على واقع الأسرة اليوم في الساحة العربية، من خلال سياسات وبرامج تدخلية وشراكات بحثية وتأهيلية أسرية تعزز استقرار المؤسسة الزوجية.

 

سأتحدث في كلمتي هذه ضمن ثلاثة محاور: 

أ. المحور الأول: حول تجربة التأهيل الأسري ومدى نجاعتها في معالجة الوضع الحالي للمؤسسة الأسرية وفي تعزيز استقرارها.

لقد شهد الربع الأول للقرن الواحد والعشرين بعض المبادرات أو المحاولات لتأهيل المقبلين على الزواج على مستوى عدة دول عربية، كانت بمنزلة تجارب عملية وعينات بحثية يمكن الاستفادة منها، والبناء عليها، من خلال الوقوف على أهم التحديات أو العقبات التي واجهَتها، والنتائج التي حقَّقَتها والخلاصات التي قدَّمَتها، وبيان مدى نجاعَتها في معالجة الوضع الحالي للمؤسسة الأسرية وفي تعزيز استقرارها.

- أما التحديات:

فأولها: العقبة الإدارية الرسمية:

المتمثلة في عدم وضع التأهيل الأسري أولوية لدى المؤسسات الرسمية المعنية بالأسرة، علماً أنه تم اقتراح إلزاميته مراراً، ثم تعطل ذلك لعدة وجهات نظر معتبرة، ولكنها لا تمثل غير تحديات يمكن تجاوزها أو إشكاليات يمكن معالجتها ورفعها، ومتابعة العمل على رفع وعي المقبلين على الزواج بأهميتها.

ومن أبرز هذه التجارب التي سعَت أو اقترحَت أو عَملَت على إلزامية التأهيل الأسري: 

1) ماليزيا (عام 2000): كانت ماليزيا رائدة في هذا المجال، وسبَّاقةً لإلزامية التأهيل الأسريّ، وقدّمت أنموذجاً ناجحاً في تكوين الأسرة واستقرارها ومعالجة العنوسة وتحقيق التوافق بين الأزواج على نطاق واسع، وتجربتها هذه تستحق أن تدرَّس؛ لتنحو الدول الأخرى نحوها وتنهج نهجها؛ فبعد أن عمِلت الحكومة على تحديد ملامح الخلاف والنزاع والتحديات التي تعيق استمرارية الأسرة، وحل النزاعات والخلافات التي قد تعكر صفو الأسرة ومسيرتها، وتسهيل التوصل إلى اتخاذ القرار وبأسلوب ناجع([1])، بدأت تعقد دورات تأهيل للمقبلين على الزواج بإطلاق الرخصة المشروطة للزواج بعد اجتياز الدورة لجميع أبناء المجتمع الماليزي([2])، وقد تبين للقائمين على هذه البرامج حدوث انخفاض ملموس في نسب الطلاق التي كانت تعانيها ماليزيا([3])، وسنأتي على ذكر ذلك لاحقاً. 

 

2) في البحرين (عام 2015): وافقت لجنة المرأة والطفل بمجلس الشورى البحريني في 25/11/2015م على إعداد اقتراح قانون بشأن إقامة دورات تثقيفية تأهيلية تتعلق بالحياة الزوجية وبصفة إلزامية للمقبلين على الزواج، أسوة بالفحص الطبي المعتمد لما قبل الزواج في المملكة.

وأوضحت أن المقترح المزمع إعداده يأتي بهدف الحد من تزايد حالات الطلاق التي أخذت في الارتفاع؛ بسبب قلة الوعي المجتمعي لدى الشباب بمتطلبات الحياة الزوجية، وفقدان إدراك كلٍّ من الزوجين مسؤوليته تجاه الآخر، أو لسوء الفهم، أو غيرها من الأسباب التي من الممكن تدارك عواقبها الوخيمة على الزوجين والمجتمع بالتثقيف والتوعية قبل الزواج([5]).

وقد اعترضت اللجنة التشريعية بمجلس الشورى على مقترح القانون في 04 أبريل 2016م، ورأت أنه يتعارض مع أحكام الدستور، وذلك أن النص فيه إلزام وتقييد للحرية الشخصية، كما اعترضت وزارة العدل والشؤون الإسلامية على المقترح؛ حيث تفضي فلسفة الاقتراح نفسه إلى إيجاد مشكلة عملية، بعدم إبرام عقد الزواج لعدم حضور المقبلين على الزواج دورة تدريبية، أو لم يجتز عدد ساعات، وأنه بإمكان المأذون الشرعي إعطاء مطويات تثقيفية تشتمل على سلوكيات وحقوق وواجبات الزوجين بدلاً من الإلزام على دخول دورة تدريبية.

وبعد أن أثار هذا المشروع جدلاً كبيراً بين الشوريين انتهى إلى سحب القانون لإخضاعه لمزيد من الدراسة عبر لجان مجلس الشورى([6]).

 

3) في الأردن (عام 2017)أصدر قاضي القضاة في الأردن تعليمات جديدة تنظم عملية منح المحاكم الشرعية لإذن الزواج، والتي ألغي بموجبها التعليمات السابقة الصادرة عام 2011م، وقد بدأ العمل بالتعليمات الجديدة اعتباراً من 1/8/2017م، غير أنها لم تلزم غير المقبلين على الزواج تحت سن 18.

 

4) في الجزائر (عام 2018): نظم المجلس الإسلامي الأعلى في الجزائر ندوة بعنوان: "ارتفاع معدلات الخلع والطلاق ومخاطرها على الأسرة والمجتمع في الجزائر" اقترح خلالها ثلة من المشايخ والحقوقيين والخبراء والبرلمانيين التوجه لتكوين المقبلين على الزواج وتأهيلهم قبل الارتباط، من خلال سنِّ قوانين لإدراج شهادة التأهيل الأسري في ملفات الزواج؛ بهدف الحد من الطلاق الذي تحول إلى كابوس ومعوَل هدم للأسر الجزائرية([7]).

 

5) في مصر (عام 2019): في يناير تحديداً قدمت النائبة المصرية مايسة عطوة والنائب محمد فؤاد مقترحاً جديداً للبرلمان المصري، حول إلزام المقبلين على الزواج بحضور دورة تأهيلية للزواج، وقد وافقت لجنة الاقتراحات والشكاوى بمجلس النواب عليه، واعتبر عدد من نواب البرلمان أن ذلك الاقتراح سيكون فرصة للحفاظ على الكيان الأسري المصري([8]).

 

هذا غيض من فيض، ونماذج سريعة من بعض الدول، ونماذج من المشاريع داخل هذه الدول، يضاف إليها الكثير من المحاولات والتجارب، كتجربة (الدورة التأهيلية للحياة الزوجية) في سوريا 2010 على مستوى مجلس الشعب، والبرامج والدورات التوعوية للشباب والفتيات المقبلين على الزواج في السعودية 2013 على مستوى مجلس الوزراء؛ وبإشراف وزارة الشؤون الاجتماعية([9])، وفي مصر 2019 مشروع (مودة) لوزارة التضامن الاجتماعي([10])، وبرنامج المجلس القومي للمرأة تحت عنوان (معاً لنقى)([11])، وفي عُمان 2019 برنامج (تماسك) ([12])، ومؤخراً تونس في خطة تأهيل المقبلين على الزواج 2023 - 2025، تأتي كخطوة حكومية إسعافية لمكافحة التفكك الأسري والحدّ من نسب الطلاق والعزوف عن الزواج([13])

 

إن إلزامية التأهيل الأسري غير مفعَّلة في كثير من الدول العربية، ولكنها قيد الدراسة والبحث الجاد في عدد من الدول، ولا تزال المبادرات الحكومية الرسمية في معظم الدول العربية مبادرات تأهيلية خجولة، لا ترقى إلى مستوى الاحتياج، ولا تقف بجدية للتصدي لمختلف التغييرات والتحديات والمخاطر التي تكتنف الجيل وتدكّ الأسَر، وربما ستشهد السنوات القليلة القادمة تفعيلاً لها وتغيراً ملموساً يليها في أحوال الأسرة العربية إن شاء الله تعالى.

 

إن الاهتمام بالتأهيل الأسري اهتمام ماضٍ في النمو، ولكن نمو التفكك الأسري أسرع منه، لذلك هو يحتاج إلى مزيد من الجهود، وتعجيل الحركة حتى يستطيع أن يكافئ، ثم يتغلب على التفكك الأسري، وإلا فإن الذي يبدو في الأفق مخيف جداً على مستوى الأسرة والتربية، فمن خلال نظرة سريعة لوضع الأسرة في العالم العربي اليوم؛ يظهر ارتفاع:

1.    حالات الطلاق قبل الدخول.
2.    حالات الطلاق في السنة الأولى.
3.    حالات الطلاق عموماً.
4.    حالات الزواج في الظلّ (غير الرسمي).
5.    ولادات الأطفال مجهولي النَّسب.
6.    الأحداث المنزلقون نحو الجريمة.
7.    نِسَب انتشار العمالة بين الأطفال.
8.    نِسَب حالات العنف الأسري.
9.    نِسَب ارتفاع متوسط سنّ الزواج. 
10.    نِسَب العنوسة القسرية.
 

هذه أهمّ المخاطر والمآلات التي تنتظر الأسرة وتهدد استقرارها في حال استمرار غياب التأهيل الأسري الصحيح البنَّاء في المساحات التي تَعُدُّه ترفاً معرفياً، وتُخلي المساحة للتأهيل الأسريّ السَّلبي الهدَّام. إن هذه الكوارث ليس لها طريق وقائي أقرب وأسلم من التأهيل الأسري!

 

ثانيها: العقبة المعرفية:

وتتمثل في عدم الشعور بالاحتياج للتأهيل الأسري لدى الشباب، مع أنه اليوم يعاني من وجود فجوة حقيقية في الزواج تفصل بين التوقعات والوقائع، وذلك بسبب التصور المنقوص أو المغلوط عن الزواج، ولا بد أن نعترف - كعاملين في المجال الأسريّ - أنَّ ثقافة التأهيل الأسري هي ثقافة شبه منعدمة في بعض مجتمعاتنا العربية عموماً، وإن وُجدَت فلا تكاد تخلو من ضعف؛ إذ يتقلب الكثير من الشباب في متاهات الجهل الأسري المركب، والتأهيل السلبي الذي يتلقاه من عدة جهات (إعلام، مجتمع، خبرات عائلية خاصة)، وإلى وقت ليس بالبعيد كان المجتمع والأسرة الممتدة والجار والمعلّم والمسجد... كلٌّ منهم يقوم بدوره التأهيلي الإيجابي، لكن اليوم تغير الحال بتغير العلاقات الاجتماعية وطبيعة الحياة الواقعية، فالذي يدخل إلى الحياة الزوجية من دون تأهيل أسري صحيح لا يدخل إليها بذهن فارغ؛ لأن المسكين ذهنه محشو بكثير من المعلومات الخطأ عن الزواج مفهوماً، ثم حين تحين ساعة الجدّ في الارتباط الأسري - بعد جولات ومغامرات عاطفية - يُقبل على الارتباط والالتزام متعثراً حائراً في فهم ما هو صواب وما هو خطأ، وما هو حق وما هو واجب، فيقع الخلل بدءاً من التعارف، ثم الخطبة، ثم العقد، ثم الزواج، ثم السنة الأولى، وقد يقع الطلاق والخلع، ولا يشعر أحدهما أو كلاهما باحتياجه لتكوين أسري وتأهيل تربوي يعينه ويدعمه ويعطيه الوقاية والحلول. ويمحو عنده الأمية الأسرية والتربوية؛ لأن تركيزه الأكبر يكون منصباً على إجراءات الزفاف وترتيب لوازمه، ولو أن الشباب والشابات يفكرون بحياتهم الزوجية ويخططون لها ويحسبون تفاصيلها كما يفكرون ويخططون ويحسبون ليوم الزفاف وحده؛ لرأينا أسرَهم اليوم بألف خير!

والسؤال: لماذا لا يفعلون ذلك؟ لم لا يتأهَّلون؟ ربما السبب هو جدَّة هذه البرامج التأهيلية - نسبياً - في حياة المجتمع؛ مما دفع غرَّة أفراده لاستنكارها في بداية الأمر، ثم ألِفها الشباب ولكنهم يقلِّلون من أهميتها ولا يتوقعون مدى احتياجهم إليها، ولا يعون أهمية هذه البرامج التأهيلية بناءً على قناعتهم الخاطئة بمصادر المعلومات التي يتلقونها عن الحياة الزوجية. يرافق ذلك عدم وجود توعية كافية من قبل الجهات الرسمية أو الجهات المعنية بالتوعية كالإعلام ومنظمات المجتمع المدني بأهمية هذه البرامج وضرورتها للشباب والشابات.

 

ثالثها: سوق التأهيل الأسري:

يزيد الطين بلة اقتحام أنصاف المدربين وأشباه المرشدين (جماعة دورات الإرشاد الأسري التي تكون مدتها 6 ساعات، ينال شهادة، فيفتح مكتب استشارات، ويكتب على بطاقته التعريفية: الاستشاري الأسري الدولي!)؛ هؤلاء لهم أثر سلبي جداً في بعض المجتمعات.

ذلك الأثر يترافق مع أنصاف مشاريع، ففي دراستي المسحيَّة التي أجريتُها على المشاريع الأسرية المعاصرة وأثرها على الأسرة؛ تبين لي أن هناك وفرة في المشاريع والجمعيات في الساحة العربية؛ غير أن تلك المشاريع في عامتها مشاريع فقاعية قصيرة النفس سريعة الزوال، وهي تشكّل عائقاً ضبابياً لرؤية غيرها من المشاريع الضخمة التي لم تأخذ حقَّها من الصدى في الساحة العربية، وربما ذلك يرجع لمجموعة أسباب؛ كضعف الموارد البشرية، أو المادية، أو ضعف التسويق، مع زحمة المفردات الأكثر جاذبية في الساحة الإعلامية، أو التركيز على الأثر الأرضي - الفاعلية على الأرض - دون الإعلام والتسويق.

 

رابعها: العقبة المادية:

هناك شريحة أخرى تعي أهمية التأهيل الأسري وضرورته، لكنها تواجه مشكلة عدم القدرة على تخصيص الوقت اللازم للتأهيل الأسري، والذي غالباً ما يكون أياماً تدريبية تحتاج تفرُّغاً، وإن وجدت الوقت فلا تجد القدرة على دفع التكلفة المالية اللازمة للبرامج المتميزة، أو تجد في السوق برامج غير منهجية أو غير متخصصة، أو برامج تحتاج مسارات طويلة ومتعبة.

 

- وأما النتائج والخلاصات، وما يتعلق بمدى نجاعتها في معالجة الوضع الحالي للمؤسسة الأسرية وفي تعزيز استقرارها:

فالمنطق الواقعي يقول إنه ليس هناك وصفة سحرية للزواج الناجح، فالعملية التأهيلية لا تقدم أكثر من خطوط عريضة ومؤشرات عامة واختيارات متعددة تعين كلا الطرفين على فهم الذات، وتحديد الأولويات، واختيار الشريك، ثم فهمه، وإشباع احتياجاته، والتعايش معه والتوافق أو التكيّف بأفضل صورة ممكنة، من خلال تدريب المتأهلين على مهارات التواصل مع شريك الحياة؛ بناء على القيم الإنسانية العامة من الاحترام والتقدير وتحمل المسؤوليات وتبادل العواطف...

ولذلك، فالخضوع للبناء الأسري السليم والتأهيل الصحيح - إجمالاً - كفيل بإحداث شيء من التغيير الإيجابي عند صدق النية والعمل الحثيث الصحيح([14])، فمع أن الإحصاءات اليوم تشير إلى ارتفاع نسَب الطلاق والخلع، خاصة قبل الزفاف، وبين المتزوجين حديثاً، لكنها تشير - في الوقت نفسه - إلى أن البناء الصحيح للأسرة كفيل برفع الاستقرار الزواجي بنسب عالية كما أوضح:

1. استبيان جمعية مودة السعودية:

فقد بيَّنت الدراسات الاستقصائية في جمعية المودة للتنمية الأسرية (السعودية - جدة) القائمة ببرنامج تدريب المقبلين على الزواج أنَّ نسبة الطلاق لدى الشباب الذين خضعوا لبرنامج التأهيل للزواج منخفضة بشكل كبير جداً؛ حيث بلغت (1.7%)، مقابل أنَّ (98.3%) من الشريحة نفسها يستمتعون بحياة أسرية مستقرة، ونسبة 87% يرون زواجهم ناجحاً، ونسبة 94% ممن خضعوا للتأهيل الأسري ينصحون غيرهم - وبشدَّة - بدخول الدورة التدريبية قبل الزواج([15]).

 

2. جمعية إعفاف القطرية:

كما أكد الدكتور يحيى حمد النعيمي مساعد المدير التنفيذي للقطاع الداخلي بمؤسسة "راف" في الاحتفال بختام مشروع "إعفاف 7" الذي أطلق عام 2020 أن 97% من الزيجات التي تمت في مشروع "إعفاف"، والتي بلغت 1000 زيجة، كانت زيجات ناجحة([16]).

 

3. جمعية إعفاف السورية:

قام مركز إعفاف بدمشق بدراسة على المستفيدين من دوراته في 2015، أظهرت أن نسبة الاستقرار الزواجي للمتأهلين في المركز قد بلغ 90%، ومنهم 10% يعانون بعض الخلافات والمشكلات تتخللها حالات طلاق؛ علماً أنّ المركز يوجِّه متدرِّبيه إلى أن يجعلوا المركز مرجعاً لهم وحضناً آمناً لمعالجة مشكلاتهم، ومن ذلك خرجت النسبة السابقة - حسب مراجعات قوائم المنتسبين المتأهلين، ولفت إلى أن الدراسة تقريبية([17]).

 

4. التجربة الماليزية:

فبعد أن بلغت نسب الطلاق في ماليزيا نحو 32% في الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي، اهتدت الحكومة إلى فكرة إنشاء مراكز خاصة لتأهيل المقبلين على الزواج، وتقوم هذه المراكز بإعطاء دورات خاصة تقدم بعدها للمشاركين "رخصة زواج"، مما أسهم في انخفاض نسبة الطلاق إلى 8% فقط في عام 2000م([18]).

هذا شيء من التجارب السابقة، والنتائج المذهلة التي حققتها، يمكن اعتباره عرضاً متوقَّعاً للنتائج النوعيَّة والآثار الإيجابية التي يكفلها التأهيل والإرشاد الأسري بحفظِ الأسَر القائمة ودعمِ القادمة.

 

لكن.. وللأمانة: لا أعلم هل ما سبَق ذكرُه من هذه النِّسب المشرِقة في الاستقرار الزواجي للمتأهلين يرجع في أسبابه إلى مجرد التأهيل الأسري، أم إلى الطبيعة العقلية والذهنية للشريحة التي تُقبِل على التثقيف الأسري والإرشاد والتأهيل، وتعي أهميَّته وتستفيد منه وتحاول تطبيقَه، أم إلى المستوى الثقافي للمقبلين على هذه الدورات والذي يتسم عادة بأنه مستوى جيد؟! أظن هذا يحتاج إلى ملاحظة دقيقة ودراسة معمَّقة!

 

ب. المحور الثاني: حول واقع التأهيل الأسري، ومدى تفاعل المقبلين على الزواج معه، والسياسات أو الوسائل المقترحة لتعزيزه وتعميق أثره.

وأود أن أنطلق في هذا المحور من واقع التجربة الميدانية لأقف عند واقع التأهيل الأسري اليوم، ومدى تفاعل المقبلين على الزواج معه كنشاط أو برنامج تدريبي.

أذكر مرة في حفل ختام دورة تأهيلية أقمتها في ولاية "المدية" الجزائرية، قام أحد الشباب وطلب أن يتحدث، وهو طالب دكتوراه تخصص لغات، فقال: يا دكتور أحمد، أنا وكثير من أمثالي نعدُّ أنفسنا مثقفين، لكن وبلا مبالغة، أكثر من 90% من المعلومات التي ذكرتَها لنا هي بين أمرين: إما لا نعرفها، فنحن نجهلها، أو نعرفها بشكل خاطئ يحتاج إلى تصويب وتصحيح حسب ما ذكرت! 

سألت نفسي: ترى؛ ما الذي يحول دون وصول المواد التأهيلية إلى هذه الشريحة من الشباب؟! ما التحديات والعوائق؟! 

إنه من خلال الاستبيانات وأوراق العمل التي أقدمها في ختام الدورة للمتدربين، (بعد تدريب أكثر من 1500  مقبل على الزواج، وتقديم أكثر من 100  دورة وندوة أسرية وتربوية) تبيَّن لي أن:

- 95% من الحضور قال بأن هذه الدورة لبَّت عنده احتياجاً حقيقياً.

- 98% من الحضور قال بأن حاجة المجتمع اليوم لمثل هذه الدورات تصنف ضمن الحاجات الضرورية، وليس الحاجيَّة ولا الكمالية.

- 90% من الحضور قال بأنه حريص على الالتحاق بالمستوى الثاني للدورة (الخاص بالسنة الأولى للزواج).

هذه النتائج بعد أن يتذوق الشاب التأهيل، بعد أن يضع أصبعه على مواضع الخلل في نظرته للأسرة، للزواج، للبيت...، لكن قبل ذلك يظهر تحدي خطير، يتمثل في عدم الشعور بالاحتياج للتأهيل الأسري لدى الجيل، كما تحدثنا سابقاً.

التأهيل الأسري هو السبيل المباشر للوصول إلى عقول الشباب، وتبيين الحقائق لهم، ورسم الطريق الأيسر بينهم وبين بيوتهم المستقبلية؛ والذي يغنيهم عن اتباع سبل أخرى موروثة أو مستوردة أو مولَّدة، وتزويدهم بالقناعات اللازمة لمواجهة الضغط الاجتماعي الضارّ، مع تفنيد القناعات المغلوطة وغرس الأفكار الصحيحة الكفيلة بدحر الخرافات التي تستند إليها كثير من العادات والسلوكات.

 

ج. المحور الثالث: بعض السياسات والتوصيات المقترحة لتعزيز التأهيل الأسري وتعميق أثره عند الشباب والفتيات المقبلين على الزواج.

1)    العمل على احتضان ورعاية ودعم المشاريع التأهيلية الأسرية بإطار رسمي، حتى يؤتي التأهيل الأسري أكله. 
2)    العمل على رفع سوية الوعي لدى الشباب بأهمية البرامج الأسرية وضرورتها للمقبلين على الزواج اليوم، والاستثمار الجريء في تسويق الفكرة وإيصالها إليهم.
3)    العمل على رفع سوية الوعي لدى المتزوجين بأهمية اللجوء إلى الاستشارات الأسرية في مراحل البناء وعلى طول عمر العائلة. 
4)    العمل على إنشاء منصات للتعريف والتواصل بين المشاريع التنمويَّة الأسريَّة الفاعلة اليوم على الساحة الاجتماعية في مجتمعاتنا العربية.
5)    دعم المؤسسات الاجتماعية للزواج الجماعي، دعماً مشروطاً بالخضوع للتأهيل الأسري، ودمج الدعم المادي بالدعم المعرفي. 
6)    العمل على صناعة برامج للتأهيل الأسري معتمدة رسمياً، وإنشاء أكاديمية تعليمية تأهيلية إلكترونية عربية.
7)    تفعيل إلزامية التأهيل الأسري والتربوي بعد ذلك.

 

ختاماً:

الواقع يقول: إنه كل ما ازداد الفقر المعرفي بين الزوجين؛ ازداد الضغط النفسي في بيتهما، وكبُرت مشكلاتهما، نتيجة التصور الخاطئ للوقائع، وانعدام امتلاك الوسائل والمهارات للتعامل مع الاختلافات والتحديات والمشكلات.

لذلك الوصية الختامية لدعم استقرار مؤسسة الزواج هي دعم التأهيل الأسري والتربوي كأولوية ضرورية غير قابلة للتأجيل، وذلك من خلال: برنامج عربي متكامل، علمي وعملي، يرفع وعي الشباب بأهمية التأهيل، ويُعدّ المدربين الأكفاء لهذه المهمة، ثم يشرع في تأهيل المقبلين على الزواج ومتابعة حالاتهم واستشاراتهم

 

وشكراً لإصغائكم الكريم

 

د. أحمد زين الدين رباح

30 / 10 / 2024م

الدوحة - قطر

 

*       *      *

 


([1]) يُنظَر: كلمة الدكتور "داتو اسماعيل إبراهيم" السفير الماليزي في السعودية، ضمن مؤتمر الزواج الصحي الشامل الذي نظمته وزارة الصحة بالتعاون مع وزارة العدل ووزارة الشؤون الاجتماعية في السعودية 2007م.

([2]) التثقيف الأسري قبل الزواج، رخصة تأهيل المقبلين على الزواج، ماجد أبو غزالة، مركز معرفة الإنسان للدراسات والنشر والتوزيع، عمان، (تحت الطبع).

([3]) يُنظَر: إسلامية المعرفة، مجلة الفكر الإسلامي المعاصر المحكّمة، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، العدد (85)، (2016م)، (ص:179) .

([4]) سناء نصر الله-كوالالمبور في ماليزيا.. حلول مبتكرة لمشكلة الطلاق، مقال منشور على موقع الجزيرة، في 20/02/2019م،

([5]) يُنظَر: الموقع الرسمي لمجلس الشورى في مملكة البحرين shura.bh

([6]) حسب ما نشرته صحيفة الأيام البحرينية، في عددها (9857)، 04/04/2016م، ولها نسخة مصورة في موقعها الرسمي alayam.com 

([7]) حسب ما نشرته وكالة الأنباء الجزائرية في موقعها الرسمي aps.dz في 07/03/2018م، ولم أجد نص المشاركات في الندوة على موقع المجلس الإسلامي الأعلى hci-dz.com

([8]) حسب ما نشرته صحيفة اليوم السابع بتاريخ 15 يناير 2019م في نسختها الإلكترونية youm7.com 

([9]) صحيفة الرياض 10 مايو 2013م - العدد (16391)، والموقع الرسمي لوزارة العمل والتنمية الاجتماعية السعودية mlsd.gov.sa.

([10]) يُنظَر: الموقع الرسمي لوزارة التضامن الاجتماعي جمهورية مصر العربية moss.gov.eg، مقال بعنوان: (مشروع مـودة يستهدف الشباب المقبلين على الزواج). 

([11]) ينظر الموقع الرسمي للمجلس القومي للمرأة في مصر: ncw.gov.eg 

([12]) وزارة التنمية الاجتماعية في سلطنة عمان، الموقع الرسمي mosd.gov.om.

([13]) خطة لتأهيل المقبلين على الزواج في تونس، العربي الجديد.

([14]) ويشهد لذلك تحقيق أجرته "مجلة الرياض" على عينة من المقبلين على الزواج والراغبين في التأهل الذين قالوا: (إن جهلهم بمعارف الحياة الزوجية أو بعضها يوقعهم في مشكلات، ربما كان إحداها سبباً مباشراً أو غير مباشر للانفصال أو الدخول في حلقات من المشكلات الزوجية المتكررة)، وعند استقراء المتخصصين في التأهيل لمعلومات هؤلاء المقبلين والتي وردتهم من الأقران أو مواقع الشبكات؛ كانت لا تخلو من أخطاء فادحة ربما أدت إلى تدمير الحياة الزوجية. ينظر: صحيفة الرياض 2 أبريل 2011م - العدد (15622)، والنسخة موجودة في موقعها الإلكتروني alriyadh.com.

([15])وذلك حسب دراسة استطلاعية أجرتها جمعية المودة للتنمية الأسرية في منطقة مكة المكرمة على المتدربين عندها بعنوان: (فاعلية برامج التأهيل الأسري بجمعية المودة للتنمية الأسرية)، ونشرتها في موقعها الرسمي almawaddah.org.sa

([17]) في مقابلة شخصية ذكر د. محمد هاني الشعال مدير مركز إعفاف في دمشق.

([18]) ينظر: سناء نصر الله-كوالالمبور في ماليزيا.. حلول مبتكرة لمشكلة الطلاق، مقال منشور على موقع الجزيرة، في 20/02/2019م.