بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
يقول الله تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا} [الإسراء: 9].
وسئلت السيدة عائشة أم المؤمنين عن خُلق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: (كان خلقه القرآن).
وقال عيسى بن يونس: (إذا ختمَ العبدُ قبَّـل الملَك بين عينيه، فينبغي له أن يجعلَ القرآن ربيعاً لقلبه يَعْمُرُ ما خرِبَ من قلبِهِ، ويتأدبُ بآدابِ القرآن، ويتخلّقُ بأخلاقٍ شريفةٍ يتميّـز بـها عن سائرِ النّاس ممن لا يقرأ القرآن).
بفضل من الله تعالى ونعمة، امتن الله تعالى علينا بإقبال عدد كبير من الشباب والشابات والرجال والنساء والشيوخ.. على حفظ كتاب الله تعالى، حتى لا نكاد نرى أسرة إلا وفيها حافظ أو حافظة للقرآن الكريم؛ بعضه أو كلِّه.
لكني نظرت في أحوال الحفظة ومعاشهم، فوجدت عدداً من النقاط التي رأيت أن نتدارس أهمَّها معاً، لعل الله تعالى ينفعني بها وإياكم.
قال قتادة بن دعامة السدوسي، وهو من علماء تابعي البصرة: (ما جالس القرآن أحد إلا فارقه بزيادة أو نقصان، ثم قرأ: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا } [الإسراء: 82]).
لاشك بأن المنزلة التي جعلها الله عز وجل لأهل القرآن الذين يشتغلون به تلاوة وتدبراً وحفظاً واستذكاراً وتعلماً وتعليماً وعملاً ودعوة وتطبيقاً.. هي منزلة من أسمى وأرقى وأعلى ما يمكن أن يحوزه مسلم بعمل من الأعمال التي يرجو بها القرب من الله عز وجل، وحسبنا حديث النبي صلى الله عليه وسلم: «خيركم من تعلم القرآن وعلَّمه» [البخاري]، وفي لفظ آخر عند البخاري أيضاً: «أن أفضلكم من تعلم القرآن وعلَّمه».
لكن المعلوم في أخلاق ديننا بداهةً أن أصحاب المنازل العلية هم أكثر الناس فهماً عن الله عز وجل، وأحسنهم خلقاً مع عباد الله، لكنَّ حظ النفس ووساوس الشيطان وتداخل الأغيار قد ينأى بالطالب عن هدفه ومنتهى قصده، وذلك ليرديه في أودية الفشل والبوار.
وهذه آفات خمس رأيتُها في بعض حفظة القرآن الكريم:
1) الغرور بحفظ لكتاب الله:
قد يزين الشيطان لأحدنا الترفع عن الآخرين والتعالي عليهم لما فضَّله الله به من حافظة جيدة أو وقت للحفظ والمراجعة، فيقع في مستنقع الغرور الذي وقع فيه إبليس من قبل على كثرة عمله، فأخرجه من سَعة رحمة الله إلى ضيق معصيته، والعياذ بالله.
وعلاج ذلك لمن وجد في نفسه غروراً لحفظه الكتاب أن ينتبه ويحذر من نفسه أن تغلبه على ما تهوى مما يُسخط مولاها، وينتبه لما يجري منها قولاً وعملاً، فلا يغتـبُ أحداً ولا يحقر أحداً، حافظاً جميع جوارحـه عمّا نُهي عنه، يجتهد ليسلمَ النّـاسُ من لسانه ويده، لا يظلم وإن ظُلم عفَّ، مع تواضعٍ في النفس، إذا قيل له الحق قَبِله من صغيرٍ أو كبير، يطلب الرفعة من الله تعالى لا من المخلوقين...
وكذا ينفعه لمعالجة غروره أن يُلزم نفسه بِرَّ والديه، فيخفضُ لهما جناح الذل من الرحمة، ويخفض لصوتهما صوته، ويبذل لهما ماله وهمته، ويشكر لهما عند الكبر، ويصلَ الرحم ولا يقطع من قطعها، ويخالط ضعاف الخلق والحال من الصالحين، ويتلطف إليهم ويعطف عليهم...
ثم يلجأ إلى الله فزعاً من شر كبره، يقوم ليله ويدعو أن يصرف الله عنه ما يجد في قلبه، وبذلك يدرب نفسه على التواضع والإخبات، ويحملها على المعالي ويرفعها عن السفاسف.
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (ينبغـي لحامل القرآن أن يُعرَف بليلـه إذا النـاسُ نائمون، وبنهاره إذا الناسُ مُفطرون، وبورَعه إذا الناس يخلطون، وبتواضعه إذا الناسُ يختالون، وبحزنه إذا الناسُ يفرحون، وببكائه إذا الناسُ يضحكون، وبصمته إذا الناسُ يخوضون).
وعن ابن مسعود رضي الله عنه أيضاً قال: (لقد أخذتُ من فم رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعاً وسبعين سورة، والله لقد علم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنني من أعلمهم بكتاب الله وما أنا بخيرهم).
وقال النووي: (ومن آدابه أن يكون على أكمل الأحوال وأكرم الشمائل، وأن يرفع نفسه عن كل ما نهى القرآن عنه إجلالاً للقرآن، وأن يكون مصوناً عن دنيء الاكتساب، شريفَ النفس مرتفعاً على الجبابرة والجفاة من أهل الدنيا، ومتواضعاً للصالحين وأهل الخير والمساكين، وأن يكون متخشّعاً ذا سكينة ووقار).
2) ظن الخير بالنفس:
كثير من الحافظين أو الحافظات لكتاب الله تعالى يحسبون أنهم على خير وصلاح واستقامة، فيأمنون مكر الله، ويغفلون عن تقويم نفوسهم ومراقبة تصرفاتهم.
وعلاج ذلك: تقوى الله في السّرّ والعلانية، والورع في القول والعمل، واتهام النفس، والحذر على الدين، والإقبال على شأن النفس اهتماماً بإصلاح ما فسد من أمرها، مع حفظ اللسان، وتحرِّي الصواب في الكلام؛ فإن تكلّم تكلّم بعلم إذا رأى الكلامَ صواباً، وإن سكت سكت بعلـم إذا كان السكوت صواباً، قليلَ الخوض فيما لا يعنيـه، يخاف من لسانه أشدّ مما يخاف من عدوّه، يحبس لسانه كحبسه لعدوّه، ليأمن شـرّه وسوءَ عاقبتِـه.
والمأمول بصاحب القرآن أن يكون نبويَّ الخلُق، لا يوقع نفسه في مثل هذه البؤر التي تَذهب بصالح الأعمال، وتورث سيء الخصال، وإنما يكون طيباً في نفسه وخُلقه وعشرته، كما أخرج الترمذي وحسَّنه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «تعلّموا القرآن، وعلِّموه، واقرؤوه، وقوموا به، فإِن مَثَل القرآن لمن تعلَّمه فقرأه وقام به كَمَثَل جِراب مَحْشُوّ مِسْكاً، يَفُوحُ ريحه في كلِّ مكان، وَمَثَلَ مَن تعلَّمه ويرقُد وهو في جوفه: كمثلِ جِرَاب أُوكِيَ على مِسْك».
وفي صحيح البخاري ومسلم عن أبي موسى رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «مَثل المُؤمِنِ الَّذي يقرأُ القُرآنَ مَثَلُ الأُتْرُجَّةِ؛ ريحُها طَيِّبٌ، وطَعْمُها طيِّبٌ، ومثلُ المؤمن الذي لا يقرأ القرآن مَثَلُ التمرة، لا ريحَ لها وطعمها حلوٌ، ومَثَلُ الْمنافِقِ الَّذِي يقرأُ القرآنَ مَثلُ الرَّيْحانَةِ، ريحها طيب، وطعمها مُرٌّ، ومَثَلُ المنافِقِ الذي لا يقرأُ القرآن كمثَل الْحَنْظَلةِ، لا ريحَ لها، وطعمها مُرٌّ».
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه أنه قال: (من قرأ القـرآن فكـأنما استدرِجَت النبوَّة بين جنبيه، إلا أنه لا يوحى إليه).
3) التنافس في القرآن لأجل الدنيا:
أخرج الإمام مسلم من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا حسد إلا في اثنتين: رجلٍ آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار، ورجلٍ آتاه الله مالاً فهو ينفقه آناء الليل وآناء النهار».
فإذا تنافس المتنافسون وتسابق المتسابقون على أمر الدنيا فصاحب القرآن في أعظم منافسة ومسابقة، في أعظم ميدان، وما أشد خسارته إذا كان في ميدانه هذا قد أساء النية وغيَّر الهدف، لينافس على سمعة ودنيا ومكر وترفع..
وإن إخلاصه في قصده هو رأس الأمر وآخره وأوسطه وجوهره، ولا شك أن الحفظ من دون الإخلاص لا قيمة له، ولذلك من لطيف ما ذكر ابن القيم رحمة الله عليه في كتاب الفوائد أنه قال: (العمل بغير إخلاص وَلَا اقْتِدَاء.. كالمسافر: يملأ جرابه رملاً؛ يُثقِله ولا يَنفعه).
وإن الله لا يتقبل من العمل إلا ما كان خالصًا له، قال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة: 5].
فإن أردت أن تحفظ فاجعل حفظك لله، ولا يكن حفظك للقرآن لدنيا تصيبها، أو سمعة تقصدها، أو منصباً تبتغيه، فإن من أول من تسعر بهم النار يوم القيامة قارئ القرآن لم يرد به وجه الله كما تقدم.
4) ضعف العبادة:
ورد عن ابن مسعود رضي الله عنه: (ينبغي لحامل القرآن أن يعرَف بليله إذا الناس نائمون وبنهاره إذا الناس مفطرون وبحزنه إذا الناس يفرحون وببكائه إذا الناس يضحكون وبصمته إذا الناس يخوضون وبخشوعه إذا الناس يختالون ).
وقال الفضيل بن عياض: (حامل القرآن حامل راية الإسلام؛ لا ينبغي له أن يلهو مع من يلهو، ولا يسهو مع من يسهو، ولا يلغو مع من يلغو تعظيماً لحق القرآن)..
5) تضييع آداب القرآن وحقوقه
وقد أفردتها في مقال منشور على الموقع بعنوان (آداب قراءة القرآن الكريم).
وهنا تساؤل مهمّ: ماذا يفعل من نسي محفوظاته؟
أول خطوة لاسترجاع ما فاتك تكون بعلاج أسباب النسيان، فللنسيان أسباب كما تعلم؛ منها: انشغال البال وتشتُّت الذهن الذي يعسِّر الحفظ على طالبه، وذلك لأن النفس إذا اشتغلت بأمرٍ صرَفها عن غيره، والله تعالى يقول: {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} [الأحزاب:4].
وعلاج ذلك يكون بالآتي:
1- تمسَّك بشرف اللقب الذي حباك الله به، إذ يقول الله تعالى: { ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} [فاطر: 32].
وأخرج ابن ماجه وأحمد عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ لِلَّهِ أَهْلِينَ مِنْ النَّاسِ»، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَنْ هُمْ؟ قَالَ: «هُمْ أَهْلُ الْقُرْآنِ، أَهْلُ اللَّهِ وَخَاصَّتُهُ».
2- أن تعتمد على الله تعالى وتسأله وتتضرع إليه، وتتوب من الذنوب، فأحياناً يكون النسيان عقوبة من الله على ذنب، كما نقل الحافظ ابن حجر رحمه الله عن الضحاك بن مزاحم قال: (ما مِن أحد تعلَّم القرآن ثم نسيه إلا بذنبٍ أحدَثه؛ لأن الله يقول: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى:30]، ونسيان القرآن من أعظم المصائب).
3- أن تراجع في مصحفٍ واحدٍ، تكتب فيه كل ما يتعلق بحفظك من ملاحظاتك ليسهل عليك تذكُّرها.
4- أن تقرأ شيئاً من التفسير الميسَّر لمعاني الآيات؛ إذ إنَّ ما يُفهم معناه أيسر على الذهن.
5- حاول عند مراجعتك للقرآن أن تبتعد عن الأسباب التي تعرقل عملية ترسيخ المعلومة واستعادة الحفظ وتشتت الانتباه، كصراخ الأطفال مثلاً أو صوت التلفاز.
6- تخيَّر الأوقات المناسبة للمراجعة والحفظ؛ كوقت الصباح -إن كنت تراه مناسباً لذهنك-، وكرِّر ما حفظت من آياتٍ في قيام الليل، لتكون أشد رسوخاً في القلب وأكثر ثباتاً في الذهن، لقول الله تعالى: {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا} [المزمل:6].
7- تعاون مع أحد أصدقائك أو إخوتك أو أبنائك ليسمع منك ما حفظت.
8- لا تتعجَّل مراجعة الكثير، قبل أن تتقن ما استرجعته.
9- أقلل من الطعام، فإن الشبع الزائد يعرقل عملية الحفظ، وكذلك احذر شدَّة الجوع فإنه يُذهِب قوة الذهن.
10- تعاهد القرآن الكريم بدوام القراءة والمراجعة؛ إذ إنه سريع التفلت كما وصفه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعن أبى موسى رضي الله عنه عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قال: «تَعَاهَدُوا هَذَا الْقُرْآنَ، فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَهُوَ أَشَدُّ تَفَلُّتًا مِنَ الإِبِلِ فِى عُقُلِهَا» [رواه مسلم].
وأخرج البخاري ومسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنما مَثَل صاحب القرآن كمَثل صاحب الإبل المعقلَّة، إن عاهد عليها أمسَكها، وإن أطلقها ذهبت».
والمعروف أن الإبل إذا ذَهَبت وتفلَّتت من صاحبها لا يقدر على الإمساك بها إلا بعد تعبٍ ومشقةٍ؛ فكذلك صاحب القرآن إن لم يتعاهد حفظه بالتكرار والمراجعة انْفَلَت منه واحتاج إلى مشقةٍ كبيرةٍ لاسترجاعه.
خاتمة:
هذه خمس آفات أخلاقية رأيتها عند بعض الحفظة:
- الغرور بحفظ كتاب الله
- ظن الخير بالنفس
- التنافس في القرآن لأجل الدنيا
- ضعف العبادة
- تضييع آداب القرآن وحقوقه
سألت الله أن يجعلنا من أهل القرآن الذين هم أهله وخاصته، اللهم انفعنا بالقرآن العظيم، واجعله لنا حجة ومؤانساً وشفيعاً يا رب العالمين، اللهم أسكنَّا به الظُلل وألبسنا به الحلل، وأخرجنا به من الظلمات إلى النور، وآمنا به من وحشة القبر وعذابه، اللهم ذكِّرنا منه ما أنسينا، وعلمنا منه ما جهلنا، وارزقنا تلاوته آناء الليل وأطراف النهار، برحمتك يا أرحم الراحمين.
والحمد لله رب العالمين