بسم الله الرحمن الرحيم
يقول الله سبحانه وتعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة: 214]
وقال سبحانه: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا * ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ} [محمد: 10-11]
وأخرج البخاري ومسلم من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن رجلاً كان قبلكم رغسه الله مالاً -أي: أعطاه، وأنمى ماله وأكثره-، فقال لبنيه لما حُضِر: أيُّ أبٍ كنتُ لكم؟ قالوا: خير أبٍ، قال: فإني لم أعمل خيراً قط، فإذا متُّ فاحرقوني، ثم اسحقوني، ثم ذُرُّوني في يومٍ عاصف، ففعلوا، فجمعَه الله عز وجل، فقال: ما حملك على ذلك؟ قال: مخافتك! فتلقَّاه برحمته».
عنوان هذه الخطبة:
(دروس من السابقين)
معاشر السادة:
ورد ذكر الأمم السابقة في القرآن الكريم في أكثر من سبعين موضعاً، وورد أضعاف ذلك في الحديث الشريف، وفي الصحيحين وحدهما ما زاد على أربعين موضعاً.
وقد أمرنا الله تعالى بتتبع سِيَر من قبلنا من الأمم، والاعتبار بما نُقِل لنا عنهم، فقال: {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} [آل عمران: 137]، وقال: { أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ * وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ} [يس: 31-32]
لذلك عزمتُ أن أتذاكر معكم اليوم شيئاً مِن أحوال مَن كان قبلنا مما جاء في القرآن والسُّنة، بهدف أن يصحح أحدنا ما وجد في نفسه من أخطائهم، ويثبت على ما وفِّق من حسَن فعالهم.
وقد نظرت ذلك في القرآن الكريم والحديث الشريف فوجدت الحديث عنهم يدور في نقاط ثلاث:
النقطة الأولى: كثيراً ما أمرنا الله تعالى بأوامر أمَرَ بها مَن كان قبلنا..
من ذلك مثلاً: الصيام: يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183]
ومنها مثلاً: التقوى: يقول الله تعالى: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ}[النساء: 131]
وتعلمون -أيها السادة- أن المصادر الأصلية التي أخذ منها الفقهاء الأحكام الشرعية أربعة: (القرآن والسنة والإجماع والقياس)، يرافقها عدد من الأدلة التبعية المختلَف في اعتمادها، منها الاستحسان والاستصحاب وسد الذرائع...، وقد عدَّ السادة الحنفية والمالكية شَرْعَ مَن قبلنا شرعاً لنا، واعتبروه أحد المصادر الشرعية من الأدلة التبعية، وذلك خلافاً للشافعية وأحدِ الروايتين عن أحمد.
- النقطة الثانية: أمرنا الله تعالى بمتابعة صحيح عملهم والاستفادة منهم، فقال سبحانه: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام:90]
ومن جميل فعالهم الواردة في القرآن والسنة:
الإيمان والعمل الصالح: قال سبحانه: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا} [النور: 55]
وما أحوجنا اليوم لهذا الفضل الإلهي؛ أن نرى الدين راسخاً في قلوبنا وعقولنا وسلوكنا، وأن يبدل الله خوفنا أمناً، وأن يمنَّ علينا بعظيم فرَجه وإحسانه.
ومن ذلك: السماحة في المعاملة: أخرج البخاري من حديث حذيفة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «تلقَّت الملائكة روح رجل ممن كان قبلكم، قالوا: أعملت من الخير شيئاً؟ قال: كنت آمر فتياني أن يُنظِروا المعسر ويتجاوزوا عن الموسر، قال: قال فتجاوزوا عنه»، وفي رواية مسلم عن أبي مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «حوسب رجل ممن كان قبلكم، فلم يوجد له من الخير شيء، إلا أنه كان يخالط الناس وكان موسراً، فكان يأمر غلمانه أن يتجاوزوا عن المعسر، قال: قال الله عز وجل: نحن أحق بذلك منه، تجاوزوا عنه».
لا تستصغر -أخي- ما لحسن تعاملك المالي مع الخلق وسماحتك فيه من أثر وقدر عند الله سبحانه، فهذا الرجل لم يكثر من النوافل، ولا من بكاء الأسحار، ولكن وسعه فضل ربه لحسن تعامله مع الخلق.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِراً أَوْ وَضَعَ لَهُ أَظَلَّهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تَحْتَ ظِلِّ عَرْشِهِ يَوْمَ لاَ ظِلَّ إِلاَّ ظِلُّهُ» [الترمذي]
وفي رواية مسلم عَنْ كَعْب بن عَمْرٍو الأَنْصَارِيّ رضي الله عنه قال: أَشْهَدُ بَصَرُ عَيْنَيَّ هَاتَيْنِ -وَوَضَعَ إِصْبَعَيْهِ عَلَى عَيْنَيْهِ- وَسَمْعُ أُذُنَيَّ هَاتَيْنِ، وَوَعَاهُ قَلْبِي هَذَا -وَأَشَارَ إِلَى مَنَاطِ قَلْبِهِ- رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَقُولُ: «مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا أَوْ وَضَعَ عَنْهُ أَظَلَّهُ اللهُ فِي ظِلِّهِ».
أتلف حريقٌ في خان الجمرك في أسواق دمشق القديمة بضائعَ تاجر قماش وحوَّلها إلى رماد، كان هذا التَّاجر قد أخذ جزءاً من بضائعه بالدَّين من تاجرِ جملة، وهو ملتزم أمام تاجر الجملة بأقساط أسبوعية دَفَعَ جزءاً منها وبقي جزء آخر، وحرر له سندات لقاء هذا الإقراض، فلما جاءه في الأسبوع الذي تلا الحريق ليدفع له المبلغ فوجئ بأن تاجر الجملة كان قد أعد له السندات كلّها وقدمها له هدية مع المبلغ الذي جاء به، وقال له: يا فلان، لقد عَلِمنا ما أصابك من ضرر بالحريق، أفترانا لا دِينَ عندنا ولا خُلُق ولا مروءة حتَّى نأخذ منك المال كاملاً؟! هذه السَّندات، وهذا المبلغ هدية مني لك...!! «الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء» [أبو داود]
- النقطة الثالثة: أرشدنا الشرع لاجتناب ما وقعت فيه الأمم السابقة فيه من الأخطاء، وحذرنا من الاتباع الأعمى لهم، فأخرج البخاري من حديث أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لتتبعن سنن من كان قبلكم شبراً شبراً وذراعاً بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب تبعتموهم».
وأخرج مسلم عن أبي بصرة الغفاري رضي الله عنه قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم العصر فقال: «إن هذه الصلاة عُرِضت على من كان قبلكم فضيعوها، فمن حافظ عليها كان له أجره مرتين».
وقد حدثتنا الشريعة عن أمور أهلكت من قبلنا، وذلك لنحذر الوقوع فيها، من ذلك:
- الظلم: أخرج البخاري عن عائشة أن أسامة كلم النبي صلى الله عليه وسلم في امرأة فقال: «إنما هلك من كان قبلكم أنهم كانوا يقيمون الحد على الوضيع ويتركون الشريف والذي نفسي بيده لو أن فاطمة فعلت ذلك لقطعت يدها».
- التنافس في الدنيا: أخرج البخاري حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أبشروا وأمِّلوا ما يسركم، فوالله ما الفقر أخشى عليكم ولكني أخشى أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها وتهلككم كما أهلكتهم».
- الكبْر: أخرج مسلم من حديث أبي هريرة ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن رجلاً ممن كان قبلكم يتبختر في حلة قد أعجبته نفسه، فخسف الله به الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة».
- الشحّ: أخرج مسلم عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «اتقوا الظلم، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشح، فإن الشح أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم».
ختاماً: هاتان قصتان مما حدَّث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمن كان قبلكم:
القصة الأولى:
أخرج البخاري ومسلم من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «خرج ثلاثة نفر يمشون، فأصابهم المطر، فدخلوا في غار في جبل، فانحطت عليهم صخرة، فقال بعضهم لبعض: ادعوا الله بأفضل عمل عملتموه، فقال أحدهم: اللهم إني كان لي أبوان شيخان كبيران فكنت أخرج فأرعى ثم أجيء فأحلب، فأجيء بالحلاب، فآتي به أبوي فيشربان، ثم أسقي الصبية وأهلي وامرأتي، فاحتبست ليلة، فجئت فإذا هما نائمان، فكرهت أن أوقظهما، والصبية يتضاغون عند رِجليّ، فلم يزل ذلك دأبي ودأبهما حتى طلع الفجر. اللهم إن كنتَ تعلم أني فعلتُ ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا فرجةً نرى منها السماء. قال: ففرج عنهم.
وقال الآخر: اللهم إن كنت تعلم أني كنت أحب امرأة من بنات عمي كأشد ما يحب الرجل النساء، فقالت: لا تنال ذلك منها حتى تعطيها مائة دينار، فسعيت فيها حتى جمعتها، فلما قعدتُ بين رجليها قالت: اتق الله، ولا تفضّ الخاتم إلا بحقّه، فقمت وتركتها، فإن كنت تعلم أني فعلتُ ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا فرجة. قال: ففرج عنهم الثلثين.
وقال الآخر: اللهم إن كنت تعلم أني استأجرتُ أجيراً بفرق من ذرة، فأعطيته وأبى ذاك أن يأخذ، فعمدتُ إلى ذلك الفرق فزرعته حتى اشتريتُ منه بقراً وراعيها، ثم جاء فقال: يا عبد الله، أعطني حقي، فقلت: انطلق إلى تلك البقر وراعيها فإنها لك، فقال أتستهزئ بي؟! قال: فقلت: ما أستهزئ بك، ولكنها لك. اللهم إن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا. فكشف عنهم».
من فوائد الحديث:
- اعمل بينك وبين الله عملاً تتوسل به بين يدي الله تعالى في الشدائد.
- عليك ببر الوالدين، فإنه غنيمة، أما ترى أنه حرك الصخر بين يدي هذا الرجل الذي ذكره الحديث، فلعل الله تعالى يفتح لك به أبواباً من الرزق والفرج والتيسير طانت مرتجة عليك زمناً.
- تذكر أن ترك الحرام من النساء والأموال كفيل أن يعجل لنا الفرَج، ويكشف عنا ما نحن فيه، فربنا رب هؤلاء الثلاثة أصحاب الغار.
القصة الثانية:
وأخرج البخاري ومسلم من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كان فيمن كان قبلكم رجل قتل تسعة وتسعين نفساً، فسأل عن أعلم أهل الأرض، فدُلَّ على راهب، فأتاه فقال: إنه قتل تسعة وتسعين نفساً فهل له من توبة؟ فقال: لا، فقتله فكمل به مائة، ثم سأل عن أعلم أهل الأرض، فدُلَّ على رجل عالم، فقال: إنه قتل مائة نفس فهل له من توبة؟ فقال: نعم، ومن يحول بينه وبين التوبة؟ انطلق إلى أرض كذا وكذا فإن بها أناساً يعبدون الله فاعبد الله معهم، ولا ترجع إلى أرضك فإنها أرض سوء، فانطلق حتى إذا نصف الطريق أتاه الموت، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فقالت ملائكة الرحمة: جاء تائباً مقبلاً بقلبه إلى الله، وقالت ملائكة العذاب إنه لم يعمل خيراً قط، فأتاه ملك في صورة آدمي فجعلوه بينهم فقال قيسوا ما بين الأرضين فإلى أيتهما كان أدنى فهو له، فقاسوه فوجدوه أدنى إلى الأرض التي أراد فقبضته ملائكة الرحمة).
وفي رواية البخاري: (فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب فأوحى الله إلى هذه أن تقربي، وأوحى الله إلى هذه أن تباعدي، وقال قيسوا ما بينهما فوجد إلى هذه أقرب بشبر فغفر له).
من فوائد الحديث:
- باب الله مفتوح ما دام الليل والنهار، ينادينا في كل يوم أن أقبلوا، فمن أوى آواه الله، ومن استغنى استغنى الله عنه، والموفق من استدل على خطئه أو دُلَّ عليه، فاعترف به وسعى لإصلاحه وتاب منه، وليس العيب أن تقع ولكن العيب أن تبقى أرضاً، وليس الشؤم أن تذنب ولكن الشؤم أن تصر على ذنبك.. «إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها» [مسلم].
- لا بدَّ عند هجر المعاصي من هجر أهلها، فهذا من تمام التوبة ومظنة الثبات عليها، وبقاء صداقة الأشرار مظنة الشر.
- الواجب عليك صدق النية في الإقبال على الله، فإن صح منك ذلك كفاك، وتولى الله أمر دنياك وآخرتك.
والحمد لله رب العالمين