بسم الله الرحمن الرحيم

قال الله تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} [البقرة:273].

قال المفسرون: هذه آية أثنى الله تعالى فيها على طائفة من المسلمين لتعففهم وتركهم سؤال الناس، وقوله تعالى: {إِلْحَافًا} أي إلحاحاً وتكراراً للمسألة.

 

وأخرج مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ سَأَلَ النَّاسَ أَمْوَالَهُمْ تَكَثُّرًا فَإِنَّمَا يَسْأَلُ جَمْراً، فَلْيَسْتَقِلَّ مِنْهُ أَوْ لِيَسْتَكْثِرْ».

 

وأخرج الترمذي حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثَلَاثَةٌ أُقْسِمُ عَلَيْهِنَّ...، وَأُحَدِّثُكم حَدِيْثَاً فَاحْفَظُوْهُ: مَا نَقَصَ مَالُ عَبْدٍ مِنْ صَدَقَةٍ، وَلَا ظُلِمَ عَبْدٌ مَظْلمَةً فَصَبَرَ عَلَيْهَا إِلَّا زَادَهُ اللهُ عِزَّاً، وَلَا فَتَحَ عَبْدٌ بَابَ مَسْأَلَةٍ إِلَّا فَتَحَ اللهُ عَلَيْهِ بَابَ فَقْرٍ».

 

وأخرج أبو داود وأحمد من حديث ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ يَكْفُلُ لِي أَنْ لاَ يَسْأَلَ النَّاسَ شَيْئاً فَأَتَكَفَّلُ لَهُ بِالْجَنَّةِ؟» فقال ثوبان: (أنا). فكان لا يسأل أحداً شيئاً.

 

أيها الإخوة:

عمَّت في هذه الأيَّام العصيبة قلة ذات اليد، وتغيرت على كثير من الناس معايشهم، وصار كثير العمل لا يغني لسدِّ قليل العيش، ومدَّ بعض أهل الخير من خلال بعض الجهات الرسمية أيديهم للمهجَّرين والمتضررين وأصحاب الحاجة.

وفي زحمة التقاء الحاجة مع الإحسان ترى أُناساً ينأون بأنفسهم عن السؤال مع حاجتهم إلى العون، ويترفَّعون عن الأخذ مع اضطرارهم إليه، ويحفظون ماء وجوههم الذي يرونه أغلى من ماء الحياة.

وعلى الجانب الآخر يتفاجأ الناظر بأناس مدوا أيديهم عن غير حاجة، ووقفوا على أبواب الجمعيات الخيرية لغير اضطرار، وربَّما سألوا الناس العطاء والمساعدة وعندهم ما يكفيهم.

لذلك رأيت أن أتدارس معكم هذا الموضوع من خلال هذا المنبر، راجياً من الله تعالى النفع لي ولكم وللمسلمين.

 

عنوان هذه الخطبة:

(عز المسلم عفَّته)

 

حرص الإسلام على حفظ كرامة المسلم وتربيته على العزَّة والرِّفعة، وصون نفسه عن الابتذال والوقوف بمواقف الذل والهوان، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبايع أصحابه على الإسلام فيبايعهم معه على عدم سؤال الناس، من ذلك ما روى مسلم عن عوف بن مالك رضي الله عنه أنّه قال: كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: «أَلاَ تُبَايِعُونَ رَسُولَ؟»، فَبَسَطْنَا أَيْدِيَنَا وَقُلْنَا: قَدْ بَايَعْنَاكَ يَا رَسُوْلَ اللهِ، فَعَلاَمَ نُبَايِعُكَ؟ قَالَ: «عَلَى أَنْ تَعْبُدُوا اللهَ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ، وَتُطِيعُوا، وَلاَ تَسْأَلُوا النَّاسَ شَيْئًا»، قَالَ: فَلَقَدْ كَانَ بَعْضُ أُولَئِكَ النَّفَرِ يَسْقُطُ سَوْطُهُ فَمَا يَسْأَلُ أَحَدًا أَنْ يُنَاوِلَهُ إِيَّاه.

وأرسل عثمان بن عفان رضي الله عنه إلى أبي ذرٍّ الغفاري رضي الله عنه بصرّةٍ فيها نفقةٌ على يدي عبدٍ له، وقال: (إن قَبِلها فأنت حرٌّ)، فأتاه بها، فلم يقبَلها، فقال: اقبلها -يرحمك الله- فإن فيها عتقي، فقال: (إن كان فيها عِتْقُكَ ففيها رِقي)، وأبى أن يَقبلها.

 

وليس ذلك عنه رضي الله عنه ببعيد، حين تقرأ ما أخرج ابن ماجه وأحمد عنه رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا أبا ذَرٍّ، أرأيتَ إن أصاب الناسَ جوعٌ شديدٌ لا تستطيع أن تقومَ من فراشِك إلى مسجدِك كيف تصنعُ ؟ قلتُ: اللهُ ورسولُه أعلمُ، قال: تعفف يا أبا ذر».

 

وسمع عمر رضي الله عنه سائلاً يسأل بعد المغرب فقال لواحد من قومه: عَشِّ الرجل، فعشاه، ثم سمعه ثانياً يسأل فقال: ألم أقل لك عَشِّ الرجل؟ قال: قد عشيته، فنظر عمر فإذا تحت يده مخلاة مملوءة خبزاً فقال: لستَ سائلاً ولكنك تاجرٌ، ثم أخذ المخلاة ونثرها بين يدي إبل الصدقة وضربه بالدرة، وقال: لا تَعُد.

 

وأخرج الشيخان حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَيْسَ الْغِنَى عَنْ كَثْرَةِ الْعَرَضِ، وَلَكِنَّ الْغِنَى غِنَى النَّفْسِ».

 

أيها السادة:

اعلموا أن سؤال النَّاس حرامٌ في الأصل، وذلك لأنَّه لا يخلو من إظهار الشكوى من الله تعالى، أو إذلال السائلِ نفسَه لغير الله تعالى، أو إيذاء المسؤول غالباً؛ فربما لا تسمح نفسه بالبذل عن طيْبِ قلبٍ منه، وربما بذَلَ حياءً من السائل أو رياءً، فكان المال حراماً على الآخذ.

 

وقد أخرج مسلم عن أبي سفيان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تُلحِفوا في المسألة، فو الله لا يسألني أحدٌ منكم شيئاً فتُخرِج له مسألته مني شيئاً وأنا له كاره فيبارَك له فيما أعطيتُه».

 

لذلك: حرَّم الشرع السّؤال على من يملك ما يغنيه من مالٍ أو قدرةٍ على التَّكسُّب؛ ولا يحلّ له أخْذُ المال إن أُعطيه بالسّؤال أو إظهار الفاقة؛ لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عند أبي دواد والترمذي: «مَنْ سَأَلَ النَّاسَ وَلَهُ مَا يُغْنِيهِ، جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَفِي وَجْهِهِ خُمُوشٌ، أَوْ خُدُوشٌ، أَوْ كُدُوحٌ».

 

فمن كان محتاجاً إلى الصَّدقة مستحقاً لها بفقرٍ أو مرض مزمن أو عجزٍ عن الكسب، جاز له السُّؤال بقدر الحاجة، وبشرط أن لا يذلَّ نفسه فيه، ولا يؤذي المسؤول.

أما من خاف على نفسه أو أهله الهلاك وكان عاجزاً عن التكسب وجب عليه السُّؤال، فإنْ ترَك السُّؤال في هذه الحالة حتّى مات أثم؛ لأنَّه ألقى بنفسه إلى التَّهلكة، والسُّؤال في هذه الحالة ضرورة، والضَّرورات تبيح المحظورات.

 

هذا حكم سؤال الناس، أما من أُعطيَ شيئاً من غير مسألة جاز له قبوله إن كان من غير الزكاة؛ لما رواه البخاري ومسلم أن عمر رضي الله عنه قال: كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يعطني العَطَاءَ، فأقول: أعْطِهِ مَنْ هُوَ أَفْقَر إليه مِنّي قال: فقال: «خُذْهُ، وَإِذَا جَاءَكَ مِنْ هَذَا المَالِ شَيءٌ وَأَنْتَ غَيْرُ مُشْرِفٍ وَلَا سَائِلٍ، فَخُذْهُ فَتَمَوَّلْهُ، فَإِنْ شِئْتَ كُلْهُ، وَإِنْ شِئْتَ تَصَدَّقْ بِهِ، وَمَا لَا فَلا تُتْبِعْهُ نَفْسَك».

 

قال الإمام النووي الفقيه رحمه الله: (إذا عُرض عليه مالٌ من حلالٍ على وجهٍ يجوز أخذه، ولم يكن مِنْهُ مسألةٌ ولا تطلّع إليه: جاز أخذه بلا كراهةٍ، ولا يجب).

وقال القرطبي المفسِّر: (إن جاءه شيءٌ من غير سؤالٍ فله أن يَقبله ولا يرده، إذ هو رزقٌ رزَقه الله).

 

وجماع ما تقدم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أخرجه مسلم عن قَبِيْصَةَ بن مُخَارِقٍ رضي الله عنه: «يَا قَبِيصَةُ، إِنَّ الْمَسْأَلَةَ لاَ تَحِلُّ إِلاَّ لأَحَدِ ثَلاَثَةٍ: رَجُلٌ تَحَمَّلَ حَمَالَةً فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ فَسَأَلَ حَتَّى يُصِيبَهَا ثُمَّ يُمْسِكُ، وَرَجُلٌ أَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ فَاجْتَاحَتْ مَالَهُ فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ فَسَأَلَ حَتَّى يُصِيبَ قِوَامًا مِنْ عَيْشٍ -أَوْ سِدَادًا مِنْ عَيْشٍ-،وَرَجُلٌ أَصَابَتْهُ فَاقَةٌ حَتَّى يَقُولَ ثَلاَثَةٌ مِنْ ذَوِى الْحِجَا مِنْ قَوْمِهِ، قَدْ أَصَابَتْ فُلاَنًا الْفَاقَةُ فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ، فَسَأَلَ حَتَّى يُصِيبَ قِوَامًا مِنْ عَيْشٍ -أَوْ سِدَادًا مِنْ عَيْشٍ- ثُمَّ يُمْسِكُ، وَمَا سِوَاهُنَّ مِنَ الْمَسْأَلَةِ يَا قَبِيصَةُ سُحْتٌ يَأْكُلُهَا صَاحِبُهَا سُحْتًا».

 

أيها الأخ الكريم:

اقنع بما في يديك، وثق بربك أنه رازقك، ولا تصغِ إلى تخويف الشيطان، فقد قال تعالى: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا} [البقرة:268]، والسؤال من الفحشاء.

 

ختاماً: ما المطلوب منا بعد هذه الخطبة:

 

1- عوّد نفسك أن لا تسأل غير ربك:

 

أخرج أبو داود والترمذي عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أصابته فاقة فأنزلها بالناس لم تسد فاقته، ومن أنزلها بالله فيوشك الله له برزق عاجل أو آجل».

وأخرج البخاري من حديث عبد الله بن الزبير رضي الله عنه قال: لما وقف الزبير رضي الله عنه يوم الجمل دعاني فقمت إلى جنبه..، فجعل يوصيني بدَينه ويقول: يا بني إن عجزتَ عنه في شيء فاستعن عليه مولاي، قال: فوالله ما دريت ما أراد حتى قلت يا أبت من مولاك؟ قال: الله.

قال عبد الله: فوالله ما وقعت في كربة من دَينه إلا قلت: يا مولى الزبير اقض عنه دينه فيقضيه.

ونحن نقول: يا مولى الزبير اقض عنا الدين، يا مولى الزبير: نسألك البركة في الرزق.

 

2- فكّر ملياً: كيف يمكن أن تزيد فرَص دخلك:

 

كما ترون.. بعض الناس يعمل أربع عشرة ساعة في اليوم، وبعضهم أقل، وبعضهم أكثر، وكثيراً ما أسمع من إنسان أنه يتمنى ساعة نوم إضافية في اليوم، لكن ضغط العمل يمنعه، فالبلد نزفت من كفاءاتها، وفقدت كثيراً من زهراتها، الذين تركوا فراغاً في سوق العمل وجب على من خلفهم سده، وترى آخرين يجلسون يندبون حظهم ولا يفترون عن الشكاية والطلب والسعي في المسألة، ولا يعملون إلا في ظروف مماثلة للتي كانوا يعملون فيها قبل الأزمة.

 

3- تحمَّل -أخي- مسؤولياتك تجاه أقربائك وجيرانك ومن حولك:

 

لا أنسى أبداً يوماً كنت مسافراً فيه بصحبة أحد الأغنياء في هذا البلد إلى بعض المحافظات، لما جاءه اتصال من الجمعية التي يتبرع لها أن ابنة أخيه تريد أن تسجل في الجمعية أو تنال وساطة الجمعية عند غيرها لتضمن لقمة العيش.

أخت موسرة عندها بيت تؤجره، خرج ثلاثة من إخوتها من بيوتهم بسبب الأزمة، ومع ذلك لم تعرض على أحدهم مجرد عرض أن يسكن في بيتها المؤجر ولو بأن يدفع أجراً معقولاً يستغني به عن دفع الإيجارات الباهظة للغرباء، والسبب: حكمة بالغة – برأيها طبعاً – مفادها إياك والأقرباء.

 

هذا حديثي لكم عن "عز المسلم عفته"، سألت الله أن يغنينا وإياكم بفضله..، فإن لم تحفظ أخي من هذه الخطبة شيئاً فاحفظ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عند البخاري: «وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللَّهُ، وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللَّهُ، وَمَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللَّهُ، وَمَا أُعْطِيَ أَحَدٌ عَطَاءً خَيْرًا وَأَوْسَعَ مِنْ الصَّبْرِ».

 

والحمد لله رب العالمين