بسم الله الرحمن الرحيم
قال الله تعالى: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُون} [البقرة: 216].
وقال: {فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء: 19]
أيها الإخوة:
كان حديث الأسبوع الماضي عن بعض النِّعم التي منَّ الله تعالى بها على عدد كبير منَّا، تذكَّرها بعضنا، وغابت عن كثير آخرين، غيبتها هذه الظروف القاسية عن أذهاننا.. ذكرنا منها خمساً، هي: (الإسلام - التآلف والتعاون والتساعد والتعاضد - الإيواء - العافية - الرزق).
وكانت النتيجة العملية للخطبة:
- لا تشكو الله للناس، وأنصف ربك من نفسك، فلا تعد بلاياه وتكفر عطاياه، واشكره على ما امتن به.
- ابحث حولك عمن فضلك الله عليه في النعم، وأحسن إليه، وأعنه، ومد له يدك
- ثق بربك، وتأكد أن البلايا ليست شراً كلُّها، بل ربما كان فيها خير كبير.
وأبدأ اليوم من حيث انتهيت قبل، فأقول مستعيناً بالله:
بداية: تأكدوا -يا معاشر السادة- أننا لا نتحدث عن شرٍّ محض حين نتحدث عن عاصفات البلايا، بل ربما احتوت خيراً كبيراً وحظاً وفيراً من سابغات العطايا، تجلى حين تبددت غيوم الهموم، وأشرقت الأرض بفرَج ربها الحي القيوم.
وهذا شيء من فوائد المصائب التي يبتلي الله بها عباده:
- الفائدة الأولى: تكفير الذنوب:
أخرج البخاري ومسلم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَا يُصيبُ المُسْلِمَ مِنْ نَصَبٍ، وَلاَ وَصَبٍ، وَلاَ هَمٍّ، وَلاَ حَزَنٍ، وَلاَ أذَىً، وَلاَ غَمٍّ، حَتَّى الشَّوكَةُ يُشَاكُهَا إلاَّ كَفَّرَ اللهُ بِهَا مِنْ خَطَاياهُ». فالبلايا ممحاة للذنوب.
وأخرج الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: «مَا يَزَالُ الْبَلَاءُ بِالْمُؤْمِنِ وَالْمُؤْمِنَةِ، فِي نَفْسِهِ وَوَلَدِهِ وَمَالِهِ حَتَّى يَلْقَى اللهَ وَمَا عَلَيْهِ مِنْ خَطِيئَةٍ».
- الفائدة الثانية: مضاعفة الأجور:
ذَكَرَ الله تعالى امرأة فرعون في القرآن الكريم، وجعلها مثلاً للذين آمنوا؛ لإيمانها العظيم، وصبرها، وتحمُّلها أذى زوجها ومن كان معه.
- الفائدة الثالثة: أحياناً يكون البلاء علامة على حسن الإيمان:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي أخرجه الترمذي وابن ماجه: «أشدُّ الناس بلاءً الأنبياء، ثم الأَمثَل فالأَمثل، يُبْتَلَى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صُلْباً اشتدَّ بَلاَؤُهُ، وإن كان في دينه رِقَّةٌ ابْتُلِيَ على قدْر دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يَتْرُكَهُ يمشي على الأرض وما عليه خَطِيئَةٌ».
جاء في زاد المعاد: (قد يعاقب الرب سبحانه عباده بجرائمهم فيؤدب عبده المؤمن الذي يحبه وهو كريم عنده بأدنى زلة وهفوة، فلا يزال مستيقظاً حذراً، وأما من سقط من عينه وهان عليه فإنه يخلي بينه وبين معاصيه، وكلما أحدث ذنبا أحدث له نعمة، والمغرور يظن أن ذلك من كرامته عليه ولا يعلم أن ذلك عين الإهانة وأنه يريد به العذاب الشديد والعقوبة التي لا عاقبة معها كما في الحديث المشهور إذا أراد الله بعبد خيرا عجل له عقوبته في الدنيا وإذا أراد بعبد شرا أمسك عنه عقوبته في الدنيا فيرد يوم القيامة بذنوبه..
- الفائدة الرابعة: التذكير بفناء الدنيا وبقاء الآخرة.
وأن السعادة الحقيقية هي سعادة الآخرة، أما سعادة الدنيا فظل زائل، ولا تزيد الدنيا أن تكون دار تعب ونصب وابتلاء وامتحان، وإنك لن تجد إنساناً حاز السعادة المطلقة في هذه الحياة.
طُبِعَت على كدرٍ وأنتَ تريدها |
صفواً من الأقذاء والأكدار |
والبلاء يطلعك على حقيقة نفسك لتعلم أنَّك عبد ضعيف، لا حول لك ولا قوَّة إلَّا بربِّك، فتتوكَّل عليه حقَّ التَّوكل، وتلجأ إليه حقَّ اللُّجوء، حينها يسقط الجاه والتِّيه والخُيلاء، والعُجب والغُرور والغَفلة، وتفهم أنَّك مسكين يلوذُ بمولاه وضعيف يَلجأ إلى القويِّ المتين
قال ابن القيم: (فلولا أنَّه سبحانه يداوي عباده بأدوية المحن والابتلاء، لطغوا وبغوا وعتوا، والله سبحانه إذا أراد بعبدٍ خيراً سقاه دواءً من الابتلاء والامتحان على قدر حاله، يستفرغ به منه الأدواء المهلكة، حتَّى إذا هذَّبه ونقاه وصفَّاه: أهَّله لأشرف مراتب الدُّنيا، وأرفع ثواب الآخرة)ا.هـ.
- الفائدة الخامسة: كشف بعض المعادن المستورة.
بعض الناس قد لبسوا جلود الضأن على نفوس الذئاب، ولم تكشف حقيقتهم غير شدة نزلت بهم ففضحت سرائر نفوسهم لمن حولهم ممن خدِعوا بهم زمنا، وغاصوا بالتعامل معهم في أموالهم وأنفسهم.
قال الفُضيل بن عياض: (النَّاس ما داموا في عافية مستورون، فإذا نزل بهم بلاء صاروا إلى حقائقهم؛ فصار المؤمن إلى إيمانه، وصار المنافق إلى نفاقه).
جزى الله الشَّدائد كلَّ خير |
|
وإِنْ كانت تُغصِّصني بريقـي |
أخرج البخاري ومسلم حديث عائشة رضي الله عنها:
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد سفراً أقرع بين أزواجه، فأقرع بيننا في غزوة غزاها فخرج فيها سهمي، فخرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكنت أحمل في هودجي وأنزل فيه، فسرنا حتى إذا فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوته تلك ودنونا من المدينة قافلين آذن ليلة بالرحيل..
فقمت حين آذنوا بالرحيل، فمشيت حتى جاوزت الجيش، فلما قضيت شأني أقبلت إلى رحلي فلمست صدري فإذا عقد لي قد انقطع، فرجعت فالتمست عقدي فحبسني ابتغاؤه.
وأقبل الرهط الذين كانوا يرحلون لي فاحتملوا هودجي فرحلوه على بعيري الذي كنت أركب عليه وهم يحسبون أني فيه، وكنت جارية حديثة السن فبعثوا الجمل فساروا ووجدت عقدي بعد ما استمر الجيش، فجئت منازلهم وليس بها منهم داع ولا مجيب، فتيممت منزلي الذي كنت فيه وظننت أنهم سيفقدوني فيرجعون إلي.
فبينا أنا جالسة في منزلي غلبتني عيني فنمت، وكان صفوان بن المعطل من وراء الجيش، فأصبح عند منزلي، فرأى سواد إنسان نائم فعرفني حين رآني، فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني فخمرت وجهي بجلبابي والله ما تكلمنا بكلمة ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه، وهوى حتى أناخ راحلته فقمت إليها فركبتها فانطلق يقود بي الراحلة حتى أتينا الجيش في حر الظهيرة وهم نزول، فهلك من هلك وكان الذي تولى كبر الإفك عبد الله بن أبي ابن سلول.
قالت عائشة:
فقدمنا المدينة فاشتكيت حين قدمت شهراً والناس يفيضون في قول أصحاب الإفك لا أشعر بشيء من ذلك وهو يريبني في وجعي أني لا أعرف من رسول الله صلى الله عليه وسلم اللطف الذي كنت أرى منه حين أشتكي، إنما يدخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيسلم ثم يقول: «كيف تيكم»، ثم ينصرف فذلك يريبني ولا أشعر بالشر!!
حتى خرجت حين نقهت فخرجت مع أم مسطح قبل المناصع وكان متبرزنا، فأقبلت أنا وأم مسطح قبل بيتي حين فرغنا من شأننا فعثرت أم مسطح فقالت: تعس مسطح، فقلت لها بئس ما قلت أتسبين رجلا شهد بدراً؟
فقالت: أو لم تسمعي ما قال؟
قالت: وما قال ؟
فأخبرتني بقول أهل الإفك فازددت مرضا على مرضي..
فلما رجعت إلى بيتي دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلم ثم قال: «كيف تيكم»، فقلت له أتأذن لي أن آتي أبوي؟ قالت، وأريد أن أستيقن الخبر من قبلهما، قالت: فأذن لي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت لأمي: يا أمتاه ماذا يتحدث الناس ؟
قالت: يا بنية هوني عليك، فوالله لقلَّما كانت امرأة قط وضيئة عند رجل يحبها لها ضرائر إلا أكثرن عليها.
قالت فقلت سبحان الله أو لقد تحدث الناس بهذا ؟ قالت: فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم، ثم أصبحت أبكي.
ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علي ابن أبي طالب وأسامة بن زيد حين استلبث الوحي يسألهما ويستشيرهما في فراق أهله، قالت: فأما أسامة فأشار على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالذي يعلم من براءة أهله، وبالذي يعلم لهم في نفسه، وأما علي فقال: يا رسول الله، لمْ يُضيِّق الله عليك، والنساء سواها كثير، وسل الجارية تصدقك.
قالت فدعا رسول الله صلى الله عليه و سلم بريرة فقال: «أي بريرة، هل رأيت شيء يريبك». قالت له بريرة: والذي بعثك بالحق ما رأيت عليها أمرا قط أغمصه أكثر من أنها جارية حديثة السن تنام عن عجين أهلها فتأتي الداجن [أي الشاة] فتأكله.
قالت فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم من يومه على المنبر فقال: «يا معشر المسلمين، من يعذرني من رجل قد بلغني عنه أذاه في أهلي، والله ما علمت على أهلي إلا خيراً، ولقد ذكروا رجلاً ما علمت عليه إلا خيراً، وما يدخل على أهلي إلا معي».
فقام سعد بن معاذ رضي الله عنه فقال: أنا يا رسول الله أعذرك، فإن كان من الأوس ضربت عنقه، وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك.
فقام سعد بن عبادة سيد الخزرج وكان رجلا صالحا ولكن احتملته الحمية فقال لسعد: كذبت لعمر الله لا تقتله ولا تقدر على قتله ولو كان من رهطك ما أحببت أن يقتل .
فقام أسيد بن حضير فقال لسعد بن عبادة كذبت لعمر الله لنقتلنه فإنك منافق تجادل عن المنافقين.
قالت فثار الحيان الأوس والخزرج حتى هموا أن يقتتلوا ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم على المنبر، فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يخفضهم حتى سكتوا وسكت..
فبكيت يومي ذلك كله لا يرقأ لي دمع، ولا أكتحل بنوم، حتى إني لأظن أن البكاء فالق كبدي، فبينا نحن على ذلك دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم علينا فسلم ثم جلس، ولم يجلس عندي منذ قيل ما قيل قبلها، وقد لبث شهراً لا يوحى إليه في شأني بشيء، قالت فتشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم حين جلس ثم قال: «أما بعد، يا عائشة إنه بلغني عنك كذا وكذا، فإن كنت بريئة فسيبرئك الله، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه، فإن العبد إذا اعترف ثم تاب تاب الله عليه».
قالت عائشة:
فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم مقالته قلص دمعي حتى ما أحس منه قطرة، فقلت لأبي: أجب رسول الله صلى الله عليه وسلم عني فيما قال، فقال أبي: والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت لأمي: أجيبي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما قال قالت أمي والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت -وأنا جارية حديثة السن لا أقرأ من القرآن كثيراً-: إني والله لقد علمت أنكم سمعتم هذا الحديث حتى استقر في أنفسكم وصدقتم به، فلئن قلت لكم إني بريئة لا تصدقوني، ولئن اعترفت لكم بأمر والله يعلم أني منه بريئة لتصدقني، فوالله لا أجد لي ولكم مثلا إلا أبا يوسف حين قال: { فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ } [يوسف: 18].
ثم تحولت واضطجعت على فراشي، والله يعلم أني حينئذ بريئة، وأن الله مبرئي ببراءتي، ولكن والله ما كنت أظن أن الله منزل في شأني وحياً يتلى، لَشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله فيَّ بأمر، ولكني كنت أرجو أن يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم في النوم رؤيا يبرئني الله بها، فوالله ما رام رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلسه ولا خرج أحد من أهل البيت حتى أنزل عليه، فسري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يضحك، فكانت أول كلمة تكلم بها أن قال: «يا عائشة، أما والله فقد برأك».
فقالت لي أمي: قومي إليه، فقلت والله لا أقوم إليه، فإني لا أحمد إلا الله عز وجل، قالت: وأنزل الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [النور: 11].
بعد كل هذه الشدة وهذا البلاء الذي أربك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأثار أصحابه y، وأرتج الصديق وزوجه، وأبكى عائشة وأمرضها وحرمها النوم، ورتع فيه المنافقون يرمون عرض رسول الله صلى الله عليه وسلم ويتشفون منه بغيظهم، ينزل القرار الإلهي على صدر النبي الأعظم صلى الله عليه وسلم بالحكم المحكم: {بَلْ هُوَ خَيْرٌ}.
نعم، إن المقادير لا تجري إلا بخير، ولو اطَّلعتم الغيب لاخترتم الواقع، فلا يُكثِر أحدنا التَّذمُّر مما هو فيه؛ لأن ما نحن فيه يخبئ وراءه خيراً لنا ما اتقينا وصبرنا.
قال بعض الصالحين: (وراء كلّ محنةٍ مِنحةٌ، ووراء كلِّ بليَّة عطيَّة، ووراء كلِّ عسر يسرٌ، ووراء كلِّ شِدَّة شَدَّة، ووراء كل ضيق فَرَج).
ختاماً:
أصلح ما بينك وبين الله، يصلح الله لك أمر دينك ودنياك:
إذا ساء أحدنا ما هو فيه فليفزع إلى الله تعالى بالاستغفار والتوبة، فلعله عمل عملاً أو اجترح ذنباً أذهب الله له به بهجة العيش.
والحمد لله رب العالمين