بسم الله الرحمن الرحيم
قال الله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ}.
وأخرج البخاري ومسلم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قال الله تعالى: أنا عند ظن عبدي بي».
وأخرج أبو داود وأحمد حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنَّ حسن الظَّن بالله من حسن العبادة».
معاشر السادة:
كنت قرأت في نفسي وفي نفوس بعض من حولي شيئاً من اليأس أن يبدل الله حال هذا البلد ويفرّج همّه ويزيل كربه، وتُرجِم هذا اليأس سلوكاً، فترى أبواب الدعاء قلَّ طارقوها، وكثر نقّادها ؟!!
بعضهم يقول: (صار لنا سنة ندعو والله لا يستجيب)، وغيره يقول: (معقول ليس فينا رجل صالح يدعو فيستجيب الله؟!)!! ولعل مردَّ ذلك إلى اليأس، أو الاستعجال، أو ضعف الإيمان، أو سوء الفهم عن الله، أو شدة الامتحان وقسوته... أو غير ذلك.
لأجل ذلك عزمت أن أُعدّ هذه الخطبة، أتحدث فيها عن فضل الثقة بالله، وبوعد الله، وبكرم الله، وذم اليأس والقنوط من الله.
عنوان خطبة اليوم:
(إن الله معنا)
معاشر السادة:
أقف معكم -بداية- عند بعض المواقف التي ذكرها الله تعالى لنا في القرآن الكريم، أولها قوله سبحانه: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ}.
ألا ترون -أيها السادة- في هذه الآية عجباً؟ ألا يستوقفكم أمر الله لأم موسى حين خافت عليه أن الطلب كان خلاف ما تفطَر عليه الأمهات، فالأم إن خافت ضمَّت، لكن الثقة بالله جعلتها تلقي بولدها وفلذة كبدها في تيار الماء، تتلاعب به الأمواج وتنطلق به إلى ما لا تعلم!!
لكن هذا اليّم كان عينَ حِمى الملك، وموطن رعايته، {فرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ}.
الثقة بالله تعالى هي التي لقنّها الله تعالى أم موسى، فجرعت خلاصة التوكل على الله، وبلغت قمة التفويض إلى الله، والإطمئنان الذي لا يخالطه شك بأمر بالله.
ويسير مركب الثقة بالله ليبلغ موسى حين انطلق بصحبه هارباً من كيد فرعون وتبعهم فرعون وجنوده بغياً وعدوناً {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} فأجاب موسى بلسان الواثق: {قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ * فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ}.
ويرث رسول الله صلى الله عليه وسلم كنز الثقة بالله، ويستودعه صدره، ويمضي إلى الغار، فيقول أبو بكر رضي الله عنه الصديق الشفيق الرفيق: يا رسول الله، والله لو نظر أحدهم تحت قدمه لرآنا، فيجيب سيد المرسلين بلسان الواثق بالله: «يا أبا بكر، ما ظنك باثنين الله ثالثهما، {لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}.
يا معاشر السادة:
إن المسلم الواثق بالله يُوقن بأنّ الله لن ُيتركه، لن يُضيعه إذا تآمر عليه أهل الأرض، فيقينه: لا حول ولا قوة إلا بالله، وعقيدته: {قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللّهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ}، فإذا أحسنوا على الله توكلهم حمل البلاء عظيمُ الرجاء، وسلكت بهم الثقة بالله سبيل الفرَج، فلم تزلزلهم المِحن، ولم تهدّهم المكائد، بل زادتهم قوة وعطاءً وبذلاً، في الوقت الذي تزيد به العاجز يأساً.
نحن نقرأ في كل ركعة من صلاتنا {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}، والاستعانة تجمع أمرين: الثقة بالله، والاعتماد عليه..، ونحن نعلم بأن الشدة إذا تتابعت انفرجت، وإذا توالت تَولّت، و{سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا}، وعند تناهي الشدة يكون الفرج، وعند تضايق البلاء يكون الرخاء، وأفضل العبادة انتظار الفرَج.
يا صاحب الهمِّ إنَّ الهمّ منفرجٌ |
|
أبشر بخيرٍ فإنَّ الفارج اللهُ |
جاء رجل إلى أحد الصالحين فقال له: ادعُ الله لي يا سيدي في دين لزمني زمناً، فإني أدعو ولا يستجاب لي! فقال الشيخ: لعل الذي تدعوه لا يسمع؟! قال الرجل: معاذ الله، إنه يسمع دبيب النملة السوداء في الليلة الظلماء على الصخرة الصماء!! فقال الشيخ: إذن: لعل خزائنه نفدت؟! قال الرجل: معاذ الله، بيده ملك السموات والأرض!! فقال الشيخ: إذن: أيعقل أن يكون بخيلاً؟! قال الرجل: معاذ الله، هو أكرم الأكرمين!! فقال الشيخ: إن كان يسمع، وخزائنه ملآى، وهو الكريم، فممن العيب (الحق على من)؟
المطلوب منكم في هذه الخطبة أمور ثلاثة:
- الأمر الأول: ثقوا بربكم:
سافر نبي الله إبراهيم بزوجته هاجر وولدهما إسماعيل عليهم السلام ترشده إرادة الله، وتحذوه عنايته، وطال به السير، وامتد الطريق حتى وقف عند مكان البيت، فأنزل هاجر وطفلها في هذا المكان البلقع، وتركهما في تلك البقعة الجرداء، وهما ضعيفان لا يملكان شيئاً سوى مِزود فيه قليل من الطعام وسقاء فيه شيء من الماء، وإيمان بالله يعمر قلبهما، ويغمر نفسهما.
ترك الديار واستودعهما في هذا المكان وقفل راجعاً، فتبعَته أمُّ إسماعيل، وتعلَّقت به وأمسكَت بثوبه، وقبضَت على خطام دابته، وقالت: يا إبراهيم، إلى أين تذهب؟! ولمن تتركنا بهذا الوادي الموحش المقفر؟!!
حاولَت أن تستعطفه، ولعلها قد أشارت إلى ابنها تسترحمه بحقّه، وتتوسل إليه بفلذة كبده، وترجوه أن لا يخلي بينهما وبين الجوع القاتل، والعطش المميت..
تُرى من يحميهما من سطو الذئاب، ومن يمنعها من فتك الوحوش، وكيف يحتملان لفح الشمس، وحرارة الجو؟؟
أسالت تحت قدميه العبرات الغزيرة، وذرفت الدموع السخينة، ترجو أن يصيخ إلى استعطافها، ويستجيب إلى ندائها، ولكنه لم يستمع إلى قولها، ولم تلِن قناته لرجائها، بل أبان لها أن ذلك أمر الله، وتلك إشارته، فلا بد لها من الخضوع لحكمه والتسليم لأمره، فلما علمت بذلك كفَّت عن حواره واستسلمت لقراره، ونزلت تحت أمر الله، وركنت إلى رحمته وقالت: لن يضيعنا.
أما إبراهيم فإنه انحدر من تلك الربوة يُثقله الإشفاق والخوف، ويدفعه الإيمان والثقة بالله، ولا شك أنه تحسَّر جوى ولوعة لبعاد فلذة كبده، وفراق حشاشة نفسه، ووداع بِكره الذي اكتحَلَت عيناه به بعد أن اكتمل عمره أو كاد، وكان يصعِّد الزفرات، ويختنق بالعبرات، ولكن إبراهيم عليه السلام لا بدَّ أن يصبر على البلاء ويستسلم للقضاء، ولذلك سار إلى وطنه مخلِّفاً وراءه وحيده في تلك البقعة النائية وهو يدعو الله أن يكلأه بعنايته ويقول: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} [إبراهيم:37]
امتثلت هاجر للقضاء المحتوم، وتزودت بالثقة بالله، وتحلَّت بالصبر الجميل، ومكثَت تأكل من الزاد وتشرب من الماء حتى نفدا، فخوي بطنها وعصِبَ ريقها، واحتملت ذلك صابرة، ولم يلبث أن جفَّ ضرعها، وأصبحت لا تجد لبناً ترضعه الطفل، أو ماء يبلّ صداه.
وثقلت عليه وطأة الجوع والعطش، فبكى وانتحب وصرخ وأعول، وأمّه تتقطّع نفسُها حسرات، ودموعها تنهمل غزيرات، وودَّت أن تروي ظمأه بدموعها، وأن تردَّ عنه غائلة العطش بماء عينيها، ولكن هيهات!!
حاولَت أن تجد من مأزقها مخرجاً، وكان قذى في عينيها أن ترى ابنها يتلوى، وتَتَبّعُ نفسُه أمامها، فتركَتْه مكانه، وسارت هائمة على وجهه، تعدو وتهرول، وقد هاجها الْتِيَاع طفلها، وأحزَنها بكاؤه ونحيبه، وأخذت تبحث عن الماء وتفتّش له عن غذاء، حتى قرعت صفاة الصفا، ثم رجعت فزعة مذعورة لهول مصابها في وحيدها، وسعَت نحو سرابٍ حسِبته ماء عند المروة، حتى إذا جاءته لم تجده شيئاً، ثم كرَّت راجعة إلى هدفها الأول، ورجَعت ثانية إلى غرضِها الثاني، وهكذا سعَت سعيَ المجهود سبعة أشواط، والطفل يصيح ويصخب، يقطع بصوته نياط قلبها، ويحز بعويله في أعماق فؤادها...
رحماك يا رب، هذا الطفل جفَّ حلقُه حتى عيَّ من البكاء، وانقطع عن الغذاء حتى خارت قواه، وخفتت أنفاسه، وهذه أم ترى وحيدها يُسلِم روحه، ويجود بنفسه، وهي لا تجد لها معيناً في وحدتها ولا سلوة في مصابها، إنه الآن يفحص الأرض برجليه ويضرب الصلد بقدميه علَّه يرقّ لحاله إذا قسَت القلوب، ويلين لاستعطافه إذ عزَّ النصير، وهذا هو ذا يضرب ويضرب، فإذا الماء قد انبجس من تحت قدميه، وفار من قرعِ رجليه، {وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ}.
رأت رحمة الله تحوطها، وعناية ربها تُظلها، فجَلَست خائرة القوى، يقطر العرق من جبينها، وأكبَّت على الطفل ملتهفة تروي ظمأه، وتبلّل بالماء شفتَيه، فسرَّها أن ترى الحياة تدب في جسمه، وأن يُقبِل عليها في لهفة وشوق، فتضمه إلى صدرها وتُرَبِّت عليه بيدها، تكفكف دموعه، وتسرّي عنه شجونه وأحزانه، حتى إذا اطمأنت على وليدها عادت إليها الثقة بنجاته، وعاودها السرور بحياته، وارتوت هي أيضاً، فسَرَت فيها الحياة، وانقشعت تلك السحابة السوداء التي أظلتها زمناً، وذلك بفضل الله وعنايته، ونجحت في امتحانها، وما ضاعت ثقتها بربها...
- الأمر الثاني: لا تستعجلوا:
فقد كان بين دعاء نبي الله يعقوب عليه السلام ولقاء يوسف عليه السلام أربعين سنة، وكان بين دعاء نبي الله موسى عليه السلام على فرعون وبين إهلاك فرعون بالغرق أربعين سنة.
قال الله تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ}.
في صحيح مسلم عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: «لا يَزَالُ يُسْتَجَابُ لِلْعَبْدِ مَا لَمْ يَدْعُ بِإِثْمٍ أَوْ قَطِيعَةِ رَحِمٍ، مَا لَمْ يَسْتَعْجِلْ»، قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ: مَا الِاسْتِعْجَالُ؟ قَالَ يَقُولُ: «قَدْ دَعَوْتُ وَقَدْ دَعَوْتُ فَلَمْ أَرَ يَسْتَجِيبُ لي فَيَسْتَحْسِرُ ـ أي فينقطع عن الدعاء ويتركه ـ عِنْدَ ذَلِكَ وَيَدَعُ الدُّعَاءَ».
قال بعض العلماء: يُخْشَى عَلَى مَنْ خَالَفَ وَقَالَ: قَدْ دَعَوْت فَلَمْ يُسْتَجَبْ لِي، أَنْ يُحْرَم الْإِجَابَة وَمَا قَامَ مَقَامهَا مِنْ الِادِّخَار وَالتَّكْفِير. فأرجوك يا أخي لا تحرمنا الإجابة بيأسك، باستعجالك، بقلة صبرك.
- الأمر الثالث: أكثروا من الصالحات:
وانثروا الخيرات في أرض البلاء، ثم امضوا واثقين، وكفى الجاهل الذي لم يزرع الخير ولم يقدّم الفضل أن يظن نفسه واثقاً وهو ينتظر الماء من السراب، حتى إذا أدركه عذاب الله بجهله علم أنه الحق.
يقول ابن القيّم: الفرق بين الثّقة بالله والغرور والعجز: أنّ الواثق بالله قد فعل ما أمره الله به، ووثق بالله في طلوع ثمرته وتنميتها وتزكيتها كغارس الشّجرة وباذر الأرض، والمغترّ العاجز قد فرّط فيما أمر به، وزعم أنّه واثق بالله، والثّقة إنّما تصحّ بعد بذل المجهود.
هذا حديثي لكم عن الثقة بالله، أقول لكم ختاماً: لا تحزنوا، إن الله معنا..
الحمد لله رب العالمين