بسم الله الرحمن الرحيم
يقول الله تعالى في سورة الطلاق: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ}.
وقال سبحانه في سورة الطلاق أيضاً: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا}.
وقال سبحانه في سورة الطلاق أيضاً: { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا}.
وقال سبحانه في سورة الطلاق أيضاً: {سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا}.
وأخرج الإمام مسلم من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ إِبْلِيسَ يَضَعُ عَرْشَهُ عَلَى الْمَاءِ ثُمَّ يَبْعَثُ سَرَايَاهُ، فَأَدْنَاهُمْ مِنْهُ مَنْزِلَةً أَعْظَمُهُمْ فِتْنَةً، يَجِيءُ أَحَدُهُمْ فَيَقُولُ: فَعَلْتُ كَذَا وَكَذَا، فَيَقُولُ: مَا صَنَعْتَ شَيْئًا، قَالَ: ثُمَّ يَجِيءُ أَحَدُهُمْ فَيَقُولُ: مَا تَرَكْتُهُ حَتَّى فَرَّقْتُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ، فَيُدْنِيهِ مِنْهُ وَيَقُولُ نِعْمَ أَنْتَ».
معاشر السادة:
أثبتت الأيَّام أنَّ الألم يجمع الملأ، وأنَّ الشِّدَّة تلمُّ العشيرة، ورُبَّ مصيبةٍ جمعت قبيلة، ولله در الشاعر حين قال:
لَمَّت الآلام منَّا شملنا |
|
ونَمَتْ ما بيننا من نسب |
لكنه بات واضحاً للمراقب في هذه الأيام كثره المشكلات الأسرية والخصومات الزوجية، كما بلغت حالات الطلاق حداً لم تبلغه في ماضيات الأيام، فقد بات الطَّلاق في السَّنة الأولى ظاهرةٌ تفشَّت في البلاد العربية، وارتفاع نِسب الطَّلاق صار أمراً ملحوظاً عامَّة، إذ ذَكَرَ القاضي الشَّرعي الأوَّل في دمشق قبل مدة أنَّ عدد دعاوى التَّفريق في المحكمة الشَّرعيَّة بدمشق بلغت في السنة الماضية (7121)، أي قريباً من عشرين دعوى كلَّ يومٍ.
مما دعاني أن أبحث معكم هذا الموضوع من هذا المنبر، سائلاً الله النفع لي ولكم وللمسلمين.
عنوان خطبة اليوم:
(الأسرة والأزمة)
معاشر السادة:
عند النظر في عدد من المشكلات الأسرية يتبين أن معظمها ترجع إلى ثلاثة أسبابٍ، وهي: (الشِّدَّة النَّفسية، وقلَّة ذات اليد، وسوء الخُلُق).
- وردت على بعض المواقع المتخصصة بالاستشارات الأسرية هذه الاستشارة، يقول: أنا متزوجٌ ولديَّ طفلان، أساس علاقتنا أنا وزوجتي الاحترام والمحبَّة المتبادلة، بسبب الظُّروف السَّائدة اضطررت إلى ترك منزلي والسَّكن في منزل العائلة مع والدتي المسِنَّة، تضايقت أمِّي من سَكَن أُسرتي معها إذ تغيَّر برنامجها، ولذلك حَدَث بيننا سوء تفاهمٍ تطوَّر إلى شجارٍ، ومنذ فترةٍ عدت للعمل فانتقل الشِّجار بينها وبين زوجتي وأطفالي.
لم تعد زوجتي تُطيق التَّحمل ومثلها أمِّي، منذ عدَّة أيَّام أصابت زوجتي حالةٌ مرضيَّةٌ لم نعلم سببها، فأرشدوني؟!.
- وفي استشارة أخرى تقول: زوجي فيه عسارة، ومنذ أشهرٍ سافرنا إلى لبنان مع أهله -أمِّه وأبيه وأخته وأخيه غير المتزوج- لنسكن معاً تخفيفاً للنَّفقات.
الأمور هنا ازدات سوءاً: عسارته، ومعاملة أهله السَّيئة لي، ووضع الحجاب طيلة الوقت -لأنَّ أخاه لا يغادر المنزل-، والتَّعب من العمل المنزلي لأنَّني أنظفِّ واطبخ و...، في حين أن أخته في حِلٍّ من هذا العَنَاء.
قَدِمَ أهلي لزيارتنا، وعدُّت معهم للشَّام وحيدةً من دون أولادي؛ لأنَّ زوجي لم يقبل أبداً أن آخذ الأولاد معي.
والآن أصبحت في موقفٍ صعبٍ جداً، إذ لا أستطيع العودة إلى العَنَاء والتَّعب، ومشتاقةٌ جداً لأولادي، وزوجي لن يقبل أن نسكن في بيتٍ مستقلٍّ، فماذا أفعل؟
أيها الإخوة:
ترجع معظم الخلافات الأسرية في الأزمة إلى ثلاثة أسبابٍ، وهي: (الشِّدَّة النَّفسية، وقلَّة ذات اليد، وسوء الخُلُق).
- السَّبب الأوَّل: الضِّيق والشِّدَّة النَّفسية:
فالأخبار التي نسمع، والدَّمار الذي نرى، والأرواح التي تُزْهق، وقصص الألم التي تحدث كلَّ يومٍ، لا ريب أنَّها تُوقع في النَّفس ضيقاً وفي الصَّدر حرجاً.
والمرء ضعيفٌ بنفسه قويٌّ بربِّه، إن حمل الضِّيق ولم يضعه في ساحة مولاه ناء به وأثقله، وربَّما عكس المرء هذا الضِّيق غضباً يثور به على أهله وأسرته.
والمساعد في العلاج الإكثار من ذِكْرِ الله، يقول الله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}.
وأُقسِم، إن قلبك الَّذي بين جنبيك لا يطمئنُّ، ولا يَسكُن، ولا يهدأ، ولا يرتاح، إلَّا بذكر الله.
روى الإمام مسلمٍ في صحيحه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لاَ يَقْعُدُ قَوْمٌ يَذْكُرُونَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ؛ إِلاَّ حَفَّتْهُمُ الْمَلاَئِكَةُ، وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ، وَنَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ، وَذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ».
- السَّبب الثَّاني: قلَّة ذات اليد وصعوبة تأمين الحاجات الأساسية أو العجز عن تأمينها:
هذه القلَّة والعجز جعلا الزَّوج في ضجرٍ واضطرابٍ، والزَّوجة في تبرُّمٍ وإزعاجٍ، والمشكلة عندما لا تعي الزوجة هذه المسألة، ولا تتعاون مع الرجل في اختصار النفقات المنزلية، فيغدو المنزل أحد أكبر هموم الرجل، وتغدو المرأة التي لا تقدر ولا تدبر أحد هموم زوجها، كما يغدو الزوج الذي يلتفت إلى نفسه ونفقاته الخاصة ويقدم علبة سجائره على رغيف أولاده، أو يدير ظهره ليقول لزوجته (دبّري حالك)، ولا يعلم أن مسؤولية نفقة البيت والأسرة تقع -شرعاً وقانوناً وعرفاً- على عاتقه؛ لقول الله تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ}، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي أخرجه مسلم: «وَلَهُنَّ عليكم رِزْقُهُنَّ وكسوَتُهُنَّ بالمعرُوف».
فعلينا رجالاً ونساءً بالتَّوفير وحُسن التَّدبير، وأياً كان حال أحدنا المالي قبل الأزمة فلا يلتفت إليه، ولا يسعى ليعيش المستوى نفسه، بل عليه أن يعي المتغيرات، وأنه اليوم مسؤول عن الضروريات، ثم الحاجات، وأخيراً الكماليات.
تزوجت السَّيدة أسماء بنت أبي بكر الصِّديق -وهي الثَّريَّة بنت الثَّري رضي الله عنهما- الزَّبير بن العوَّام، والذي لم يكن بثراء والدها ولا بنِصفه، حاولت هذه الزوجة الكريمة أن تتعايش مع وضعها المالي الجديد، ولم تحملها القلَّة على التَّبرم والانزعاج، وإن كانت ككلِّ النَّاس تحبُّ رَغَدَ العيش وتألفه، وها هي تروي لنا حالها، قالت: (تَزَوَّجَنِي الزُّبَيْرُ، وَمَا لَهُ فِي الْأَرْضِ مِنْ مَالٍ وَلَا مَمْلُوكٍ، وَلَا شَيْءٍ غَيْرَ نَاضِحٍ [بعير يستقي عليه الماء] وَغَيْرَ فَرَسِهِ، فَكُنْتُ أَعْلِفُ فَرَسَهُ، وَأَسْتَقِي الْمَاءَ، وَأَخْرِزُ غَرْبَهُ، وَأَعْجِنُ، وَلَمْ أَكُنْ أُحْسِنُ أَخْبِزُ، وَكَانَ يَخْبِزُ جَارَاتٌ لِي مِنْ الْأَنْصَارِ، وَكُنَّ نِسْوَةَ صِدْقٍ، وَكُنْتُ أَنْقُلُ النَّوَى مِنْ أَرْضِ الزُّبَيْرِ الَّتِي أَقْطَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى رَأْسِي، وَهِيَ مِنِّي عَلَى ثُلُثَيْ فَرْسَخٍ، فَجِئْتُ يَوْمًا وَالنَّوَى عَلَى رَأْسِي، فَلَقِيتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَمَعَهُ نَفَرٌ مِنْ الْأَنْصَارِ، فَدَعَانِي ثُمَّ قَالَ: «إِخْ إِخْ» لِيَحْمِلَنِي خَلْفَهُ، فَاسْتَحْيَيْتُ أَنْ أَسِيرَ مَعَ الرِّجَالِ، وَذَكَرْتُ الزُّبَيْرَ وَغَيْرَتَهُ وَكَانَ أَغْيَرَ النَّاسِ، فَعَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنِّي قَدْ اسْتَحْيَيْتُ فَمَضَى.
فَجِئْتُ الزُّبَيْرَ فَقُلْتُ: لَقِيَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَعَلَى رَأْسِي النَّوَى، وَمَعَهُ نَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ فَأَنَاخَ لِأَرْكَبَ فَاسْتَحْيَيْتُ مِنْهُ وَعَرَفْتُ غَيْرَتَكَ، فَقَالَ: وَاللَّهِ لَحَمْلُكِ النَّوَى كَانَ أَشَدَّ عَلَيَّ مِنْ رُكُوبِكِ مَعَهُ، قَالَتْ: حَتَّى أَرْسَلَ إِلَيَّ أَبُو بَكْرٍ بَعْدَ ذَلِكَ بِخَادِمٍ تَكْفِينِي سِيَاسَةَ الْفَرَسِ، فَكَأَنَّمَا أَعْتَقَنِي) [رواه البخاري ومسلم].
ولا شك بأن هذا الأنموذج لم ينعدم اليوم، فكم ترى سيِّداتٍ فاضلاتٍ بناتِ عزٍّ وجاهٍ، عضَّ ناب الزَّمان أزواجَهن، فصبرنَ وعَفَفْنَ ووقفنَ مع أزواجهنَّ في الضَّراء، حتَّى أخرجوهنَّ بفضل الله إلى عزٍّ وجاهٍ جديدين، فواحدةٌ عملت في الخياطة في منزلها، والثَّانية مدرِّسةٌ لأبناء الجوار بالأجرة، والثَّالثة صانعةٌ للأطعمة والغذائيات للبيع، فضلاً عن توفيرهنَّ الكبير وتدبيرهنَّ اللافت لمصروف بيوتهنَّ.
ولئن كانت الأزمة أرخت بظلالها على البيوت بقلَّة ذات اليد عند الرِّجال، فإنَّ العلاج يكون ببحث الزَّوج عن مصدر دخلٍ إضافيٍّ وعدم ركونه إلى الكسل، وببحث الزَّوجة عن طرقٍ مبتكرةٍ في التَّوفير وحُسن التَّدبير، وعدم ركونها إلى ما اعتادت عليه في زمن البحبوحة.
السَّبب الثَّالث الأخير: سوء الخُلُق من بعض الأزواج أو بعض الزَّوجات:
أخرج البزار حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّكُمْ لَنْ تَسَعُوا النَّاسَ بِأَمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ لَيَسَعُهُمْ مِنْكُمْ بَسْطُ الْوَجْهِ».
لا خيل عندك تهديها ولا مال |
|
فليُسعف القول إن لم يُسعف الحال |
فحُسن الخُلق يشرح الصُّدور، ويُيَسِّر ما عسر من الأمور، ويُذلِّل الصِّعاب، ويُعيين على نوائب الدَّهر، فكم من زوجٍ أساء بسوء خُلُقه أكثر ممَّا أساءت الأزمة، وكم من زوجةٍ أضرَّت بسوء خصالها أكثر من أضرار الأزمة.
ولعلَّ من أهم ما زاد الخلافات الأسرية في الأزمة في مسألة سُوء الخُلُق عدم التَّأدب بآداب الشَّرع، خاصة في مسائل اختلاط الرِّجال بالنِّساء، فالأُسر التي خرجت من بيوتها واضطرت إلى السَّكن عند أرحامها أو معهم، وجب عليها التزام آداب الشَّرع في علاقة الرِّجال بالنِّساء، من حرمة الخلوة، وإطلاق النَّظر، وكشف العورات، فكم من قصَّةٍ مؤلمةٍ نمَت إلى الأسماع من جراء الاختلاط غير المنضبط.
والمساعد في العلاج حمل النَّفس على التأدب بآداب الشَّرع والتَّخلق بالخُلُق الحسن، والاجتهاد في ضبط النفس واللسان، واغتنام وقت الفراغ في حضور مجالس العلم، فهي التي تهذب الفكر والسلوك.
أيها الإخوة:
هذه ثلاثة أسبابٍ أثرت في عائلاتنا اليوم:
- السَّبب الأول: الضِّيق والشِّدة النَّفسيَّة، ويعين في علاجها الإكثار من ذِكْرِ الله.
- السَّبب الثَّاني: قلَّة ذات اليد، ويعين في التَّوفير وحُسن التَّدبير.
- والسَّبب الثَّالث: سُوء الخُلق، ويعين في علاجه التَّأدب بآداب الشَّرع وحضور مجالس العلم.
والحمد لله رب العالمين