بسم الله الرحمن الرحيم

 

يقول الله تعالى في قصة موسى وشعيب: {قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ}.

جاء في بعض التفاسير: (قصد شعيب: أريد تكون أجيراً عندي ثماني سنوات، وهذا مَهْر الفتاة، أراد به أن يُغلِي من قيمة ابنته، حتى لا يقول زوجها: إنها رخيصة، أو أن أباها رماها عليه). [تفسير الشعراوي]

لكنه استدرك بقوله: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ}، يعني: لا أريد أن يحملني قصدي على إلحاق المشقة بك لتطبيق ما اتفقنا عليه.

وأخرج الترمذي وأبو داود حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء».

 

معاشر السادة:

هذه هي الخطبة السابعة لي في هذا المسجد الكريم، ولا تكاد خطبة من السابقات تخلو بعدها من طلب أحدهم أن نتحدث عن غلاء الإيجارات، والنصَب الذي تتحمله الأسر المهجرة في سداد الأجر المترتب عليها أول الشهر، لذلك عزمت أن أتدارس معكم هذا الجانب على هذا المنبر.

عنوان خطبة اليوم:

(الأسرة والأزمة -  الإيجار - ج1)

 

معاشر السادة:

الإسلام -كما قال العلماء-: عقيدة، وشريعة، وأخلاق.

وتنقسم الشريعة إلى خمسة أبواب عريضة، هي:

  1. العبادات.
  2. والمعاملات -أي المالية-.
  3. والأحوال الشخصية -الأسرة وما يتعلق بها-.
  4. والقضاء.
  5. والسياسة الشرعية.

 

ولا يستقيم إسلام مسلم حتَّى تستقيم منه هذه الأبواب الخمسة كاملة، فنحن -المسلمين- نتقرب إلى الله تعالى بإتقان معاملاتنا المالية وبحسن الكسب والإنفاق على بيوتنا تماماً كما نتقرب إليه بصلاتنا وصيامنا، ولعلَّ رجلاً ينال رتبة عالية عند الله تعالى بحُسن تحرِّيه الحلال في رزقه لا ينالها بصلاته وصومه من النوافل، فحسن الاقتصاد من الدين، وهو ضمين الحياة الكريمة في الدنيا.

 

واسمحوا لي بداية أن أنقل لكم بعض القصص التي تدور بيننا في هذه الأيام.

يملك رجل بناءً فيه عدد من الطوابق، يسكن في أحدها ويؤجر الباقي، وفدت عليه أسرة كريمة تسأله تأمين المأوى، لم يجد هذا الرجل فسحة يؤوي بها هذه الأسرة غير سطح البناء، فعقد معهم عقداً أجرهم به هذا السطح، فهو في كل الأحوال خير لهم من المبيت في العراء.

 

بعد أيام سجَّلت هذه الأسرة في إحدى الجمعيات الخيرية في المنطقة، وبعد أيام زارتهم لجنة من هذه الجمعية لينظروا مدى حاجتهم للمعونة، فرأوا حالهم، فبادروا –كحلٍّ إسعافي- بتأمين شادر يقي هذه الأسرة حر الشمس وبرد الليل، ويمنح نساءها فسحة يسترحن فيها من دوام وضع الحجاب.

رأى صاحب السطح هذا الشادر منصوباً في أعلى البناء، فأراد أن يستبين أمره، فصعد إلى الأسرة يسألهم، ولما رأى ما تغيَّر أسرَّ على جنب لمعيل الأسرة قائلاً: كنتُ أجرتكم سطحاً بكذا، والآن صات هذه غرفة، وأجرة الغرفة ليست كأجرة السطح، فهيء لي زيادة الأجرة آخر الشهر، وإلا سأضطر إلى إجلائكم منه.

 

على الجانب المقابل:

اعتذر مستأجر قديم كان استأجر قبل الأزمة من صاحب العقار، وطلب إليه استلام عقاره وذلك لفراغ بيت أهل زوجة المستأجر بحكم سفرهم.

وافق صاحب العقار، وأخبر من حوله أنه يرغب بتأجير بيته بعد خروج المستأجر الأول.

بعد أيام يأتيه مستأجر ثانٍ، فيطلب منه المالك أجرة مقبولة فيها معنى الرحمة والمعونة، وقبل إبرام العقد بينهما يتَّصل أحد أصحاب المكاتب العقارية بصاحب البيت ليطلب إليه الرجوع عن الوعد، وحجز البيت للمكتب بأجرة هي ضعف ما سيدفعه المستأجر الجديد، لكن صاحب البيت اعتذر.

يقول لي: أنا أخاف أن أؤجره لهذا الإنسان مع علمي بأنه لا يخاف الله، فأخاف أن يغالي في السعر، فيؤاخذني الله تعالى بتمكين ظالم من ملكي.

 

معاشر السادة:

إني نظرتُ في غلاء أسعار الإيجارات في هذه المدة، فوجدتها ترجع في معظمها إلى أسباب ثلاثة: (الحاجة، والتقليد، والطمع).

ونتدارس معاً في هذه الخطبة أول الأسباب.

 

- الحاجة:

 

لا شك بأن انخفاض القوة الشرائية للعملة، مع ارتفاع أسعار السلع اليوم يدعو كل عائل إلى التفكير بطرق جديدة تزيد دخله الشهري، ولئن كان يملك المعيل عقاراً يستثمره في الإيجار فلا بد أن يَقِف عند هذه الكتلة المالية ويحاول استثمارها في أفضل طريقة ممكنة لتحمِلَ عنه شيئاً من الحرج الواقع به.

وإنه لمن المنطقي في الحسبة التجارية أن ترتفع الأجرة كلما ارتفع ثمن العقار، ولهذا فإنك تسمع كلاماً مقنعاً من الجهة التجارية الاستثمارية إذا ما وقفتَ على رأي أصحاب العقارات اليوم.

 

لكننا اليوم -يا معاشر السادة- لسنا نعيش حالة طبيعية تمكِّننا من تطبيق هذه النظرية الاقتصادية، فالحاجة اليوم أكبر من العرض، والمعاني الإنسانية اليوم مقدمة على النظريات الاقتصادية.

وما مَثلُنا اليوم إلا كمثل الأنصار مع المهاجرين، الذين قال الله تعالى فيهم: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} .

 

جاء في تفسير الرازي: (فبيَّن سبحانه أن هذا الإيثار ليس عن غنى عن المال، ولكنه عن حاجة وخصاصة وهي الفقر).

 

وما مَثَلُنا أيضاً إلا كمثل الأشعريين الذين أثنى رسول الله صلى الله عليه وسلم على تكاتفهم وتعاضدهم وتراحمهم عند الشدائد وفي الأزمات، فقال صلى الله عليه وسلم: «إن الأشعريين إذا أرملوا في الغزو أو قلَّ طعام عيالهم بالمدينة جمعوا ما كان عندهم في ثوب واحد؛ ثم اقتسموه بينهم في إناء واحد بالسوية، فهم مني وأنا منهم» [متفق عليه]

 

وبالمناسبة يا معاشر السادة:

إن تخفيف الأجرة نوع من الإنفاق في سبيل الله، والإنفاق في الميزان السماوي يزيد في الدخل ولا يُنقصه، لذلك سمى الله تعالى ما يدفعه المسلم من ماله: (زكاة)، والزكاة في اللغة النماء، فمَن أنفق نما مالُه وبورك له فيه، خاصة إن كان إنفاقه على حاجة وعسر، قال الله تعالى: {فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ * يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ * أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ * ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ * أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ }

 

فإذا ما أنفق المرء ضَمن الله له الزيادة، قال الله تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُون}.

 

وقد أرشد الله أصحاب الضيق المالي لعلاج ضيقهم بحثِّهم على الإنفاق طلباً للبركة والسَّعة في الرزق الحلال، فقال الله تعالى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا}.

أخرج الإمام مسلم من حديث أبي هريرة t عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما نقصت صدقة من مال»

 

وأخرج البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة t أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان فيقول أحدهما: اللهم أعطِ منفقاً خلفاً، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكاً تلفاً».

وأخرج البخاري من حديث أبي هريرة t أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «قال الله عز وجل: أَنفِق أُنفِق عليك».

 

نعم، نحن المسلمين تزداد ثروتنا بالإنفاق لا بالاستغلال، ولا بالاحتكار، ولا بأكل الربا، ولا برفع الإيجارات.

 

في السنة الثامنة عشرة للهجرة أصاب الناس في الجزيرة مجاعة شديدة وجدب وقحط، واشتد الجوع، حتى جعلت الوحوش تأوي إلى الإنس، وحتى جعل الرجل يذبح الشاة فيعافها من قبحها، وماتت المواشي جوعاً، وسُمِّيَ هذا العام بعام الرمادة؛ لأن الريح كانت تسفي تراباً كالرماد، واشتدّ القحط وعزَّت اللقمة، وهرع الناس من أعماق البادية إلى المدينة يقيمون فيها أو قريباً منها، يلتمسون لدى أمير المؤمنين حلاً.

 

أناخت العير في هذا العام بباب عثمان بن عفان t وطفق الغلمان يُنزلون عنها أحمالهم، فدخل التجار على عثمان وقالوا: بعنا ما وصَل إليك، فقال: كم تُربحوني على شرائي؟ قالوا: نعطيك بالدرهم درهمين، قال: أُعطيت أكثر من هذا، فزادو له، فقال: أُعطيت أكثر مما زدتموني، فزادوا له، فما زال يكرِّرها ويكررون حتى قالوا: ما بالمدينة تجارٌ غيرُنا، وما سبقَنا إليك أحد! فمن الذي أعطاك أكثر مما أعطيناك؟ قال: إن الله أعطاني بكل درهم عشرة، فهل عندكم زيادة؟ قالوا: لا، فقال: إني أشهد الله أني جعلت ما حَمَلت هذه العير صدقةً على فقراء المسلمين، لا أبتغي من أحد درهماً ولا ديناراً، وإنما أبتغي ثواب الله تعالى ورضاه.

 

استثمر عثمان ماله أعلى استثمار، في وقت أتيح له الربح تخلى عن العاجل وكسب الآجل.

 

معاشر السادة:

 وجدت غلاء أسعار الإيجارات في هذه المدة يرجع غالباً إلى أسباب ثلاثة: (الحاجة، والتقليد، والطمع).

تحدثنا في هذه الخطبة عن السبب الأول (الحاجة)، ونتابع الحديث في الخطبة القادمة بإذن الله تعالى.

 

فإن لم يحفظ أحدنا من هذه الخطبة شيئاً فليحفظ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي رواه الطبراني في المعجم الأوسط ابن عمر رضي الله عنهما: «إن لله عباداً اختصَّهم بالنعم لمنافع العباد، يقرُّهم فيها ما بذلوها، فإذا منعوها نزعها منهم فحولها إلى غيرهم».

 

والحمد لله رب العالمين