بسم الله الرحمن الرحيم
يقول الله تعالى في قصة موسى وشعيب: {قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ}.
وأخرج الترمذي وأبو داود حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء».
معاشر السادة:
نُتِمُّ في هذه الخطبة ما بدأناه في الخطبة الماضية من الحديث عن غلاء الإيجارات في هذه المدة.
عنوان خطبة اليوم:
(الأسرة والأزمة - الإيجار ج2)
معاشر السادة:
اسمحوا لي بداية أن أنقل لكم بعض القصص التي تدور بيننا في هذه الأيام.
- القصة الأولى:
قام خطيب الجمعة يحدث الناس عن مشكلة غلاء الإيجارات، ويحث أصحاب العقارات على المساعدة ما استطاعوا في حل هذه المشكلة، وقال: ليس من المعقول أن يصل آجار البيت الواحد في حينا إلى 75000 ل.س، في حين كان يؤجر قبل الأزمة بعشرة آلاف أو يزيد قليلاً.
بعد الصلاة زار أحد المصلين المستأجر الذي عنده، وقال له: بلغت الإيجارات في حينا كما سمعت من خطيب الجمعة 75000، وكنت قد اتفقت معك على 35000، ولا يعقل أن أؤجر بيتي بهذا السعر الزهيد في وقتٍ وصلت فيه إيجارات البيوت إلى هذا الحد، لذلك لا أريد أن أرفع كما قال الخطيب إلى 75، ولكن سآخذ بدءاً من الشهر القادم 50000، وإلا فغيرك يدفع كما سمعت.!!
-القصة الثانية:
جلس أحد أصحاب البيوت الأغنياء مع المستأجر الفقير لإبرام العقد، طلب صاحب البيت مبلغاً كبيراً لقاء إسكان هذا الرجل وأسرته، حاول الرجل مفاوضته عسى أن يرحمه شيئاً، لكنه أبى، فصار طالب الإيجار يسدد ويقارب لانعدام البديل؛ حتى توقف العقد على 2500 ل.س، فقال المستأجر لصاحب البيت: لعل هذا المبلغ لا يؤثر عليك كثيراً، ولكنه سيرهقني، فقال صاحب البيت: بل يفعل معي الكثير، عندي غرفة في أحد أسواق دمشق، أؤجرها بعشرين ألف، واليوم جاءني مَن دفع 22000، وسأذهب بعد هذا العقد لإخلاء المستأجر الأول إن لم يدفع مثلَ ما دفعَ غيره.
معاشر السادة:
يرجع غلاء أسعار الإيجارات غالباً إلى أسباب ثلاثة: (الحاجة، والتقليد، والطمع).
وكنا تدارسنا في الأسبوع الماضي السبب الأول (الحاجة)، ونتدارس في هذه الخطبة السببين الأخرين.
- التقليد:
بداية: إن ما تعارف عليه الناس محترم ومقدر في الإسلام ما لم يخالف نصاً شرعياً، فالعرف في الشريعة الإسلامية أحد المصادر التبعية للأحكام الشرعية، فلا تجد فقيهاً إلا وقد عاد للعرف في عدد من المسائل التي اجتهد فيها، كأجرة المثل، وثمن المثل، ومهر المثل، وقيمة كفارة الإطعام، والنفقة على الأصول والفروع ونحو ذلك...
ومن هذا العرف ما تعارف الناس عليه من الأسعار والإيجارات، لكن المشكلة تحدث عندما تختل الموازين، وترتفع الأسعار والإيجارات بشكل جنوني، فيندفع عدد من أصحاب البيوت إلى رفع إيجارات بيوتهم للحاق بركب ارتفاع الإيجارات حولهم، فيتبع الواحد منهم كل تغير جديد، دون النظر إلى بقية الاعتبارات.
فأقول أولاً لمن يرفع الأسعار ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ دَخَلَ فِي شَيْءٍ مِنْ أَسْعَارِ الْمُسْلِمِينَ لِيُغْلِيَهُ عَلَيْهِمْ فَإِنَّ حَقًّا عَلَى اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنْ يُقْعِدَهُ بِعُظْمٍ -أَيْ: بِمَكَانٍ عَظِيم- مِنْ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» [رواه أحمد].
وأقول ثانياً لمن أراد تقليدهم ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تكونوا إمعة؛ تقولون إن أحسن الناس أحسنَّا وإن ظلموا ظَلَمنا، ولكن وطنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا، وإن اساؤوا فلا تظلموا» [رواه الترمذي].
والأصل أن يتسابق الناس بالخيرات، ويتنافسون بالمبرات، {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ} {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ}؛ لا أن يتنافسوا ويتسابقوا في بلوغ مصالحهم على أعناق إخوانهم وسرد التبريرات لسلوكياتهم وفق النظام الاقتصادي الدنيوي دون النظر في الميزان السماوي.
واعلم يا أخي -صاحب العقار- أنه من آدم إلى آخر الخليقة لم يتفق اثنانِ في صورةٍ واحدةٍ، {قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُم} {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ} فلا تحشرْ نفسك في سرداب التقليد والمحاكاة لمن لا يُقيمون لميزان الآخرة اعتباراً، وابذل ما تستطيع من الخير، مستحضراً قوله صلى الله عليه وسلم: «قال من استطاع منكم أن ينفع أخاه فليفعل».
- وأما الطمع:
فكلكم يعلم أن هذا الخلق مذموم في الدنيا والآخرة، وترون كم أوقع بين الأرحام والخلان، فأغلق أصحاب الدور دورهم في وجوه أرحامهم لزعمهم أن القريب لا يُعامل بالمال، وبعضهم كان أجرأ من ذلك فطلب من القريب أكثر مما يطلب من الغريب، ولم يرقب فيه إلا ولا ذمة، فنعوذ بالله من نفس لا تشبع.
ويغنيني عن الكلام الكثير في الأمر قول رسول الله صلى الله عليه وسلم كما أخرج البخاري ومسلم: «لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى ثالثاً، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على من تاب».
وما تقدم من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي رواه الطبراني في المعجم الأوسط ابن عمر رضي الله عنهما: «إن لله عباداً اختصَّهم بالنعم لمنافع العباد، يقرُّهم فيها ما بذلوها، فإذا منعوها نزعها منهم فحولها إلى غيرهم».
هذه أمور ثلاثة وجدتها أصلاً في ارتفاع الإيجارات...
لكني أود بعدها أن أذكر نفسي وإياكم برجال كالجبال، فعلوا في هذه الأزمة ما لا يخطر على بال من أعمال البر والإحسان، فهذا يبذل بيته لأسرة شهيد بلا مقابل، وآخر يؤجر أسرة ويتفقد أحوالها ويحمل كَلَّها ويسد جوعتها.
وكما ذكَّرت أصحاب العقارات بتقديم المعونة للمستأجر أذكِّر مستأجراً يتلف البيت الذي يسكنه، ويتناسى فواتير الكهرباء والماء، ويماطل صاحب الدار على رأس كل شهر، ويسرق بعض متاع البيت إذا غادر.. فاتق الله أخي في مال الناس، وأحسن لمن أحسن إليك، فهل جزاء الإحسان إلا الإحسان؟!
- ختاماً:
أقف معكم على مسألة فقهية تخص الإجارة في الأزمة:
في 1-1-2011 استأجَر خالدٌ من أحمد محلَّاً تجارياً في القابون لمدة ثلاث سنوات، اتفقا على الأجرة واستلم خالد المحل، واستلم أحمد أجرةَ السَّنة الأولى. مضت السَّنة الأولى وبدأت في نهايتها الأحداث، مع تغير الزروف لم يتمكن المستأجر خالد من الوصول للعين المستأجَرة بسبب الخوف العام في الحي الذي يقع فيه المحلُّ.
فهل يلتزم المستأجر خالد بدفع أجرة المحلِّ للمؤجِّر أحمد؟ أم تسقط الأجرة عنه، أم يتناصفا الخسارة؟ ثمَّ ما الحكم لو هُدِمَ المحلُّ أو غُصب؟
الجواب: تُفسخ الإجارة بسبب هلاك العين المستأجَرة لفوات المنافع المقصودة منها كلِّيَّاً.
ويرى الفقهاء جواز فسخ الإجارة لحدوث عذر بالعين المستأجَرة، كغصب العين المستأجَرة، أو منفعتِها، وحُقَّ للمستأجِر الفسخ أو البقاء على الإجارة.
وبناءً عليه فجواب المسألة: يحقُّ لخالد طلبُ فسخ عقد الإجارة من أحمد، ويجب على أحمد موافقته، ويلتزم خالد السَّنة الأولى التي أخذ فيها منافع المحل، وتسقط عنه بالفسخ أجرة السَّنة الثَّانية والثَّالثة.
والله تعالى أعلم.
والحمد لله رب العالمين