(صدقك وهو كذوب) عبارة حكم بها النبي الكريم صلى الله عليه وسلم يوماً على إبليس..
سأستعير سياقَها من خلال القول: "صدقكِ.. وهو آثم" وذلك للحكم على ضحية من ضحايا إبليس، نتحدث عنها في هذا المقال!!
كثيراً.. ما تصلني استشارات من شباب وفتيات فحواها:
- (اعترفَ لي بماضيه الأسود، كيف أتصرَّف)!
- (كانت على علاقة قبلي، لم أعُد أحتمل نار غيرتي، هل أكمل معها)!
- (اكتشفتُ ماضياً سيئاً لخطيبي أو خطيبتي)!!
- (متزوجة من عشرين سنة، مشكلتي بدأت قبل العرس حين عرفتُ ماضيه اللعين)!...
وعشرات الأسئلة الأخرى التي تصب في المحور ذاته! وتكرِّر الخطأ ذاته! بعد أن نلبسه لباساً مزيناً براقاً بريئاً اسمه "الصراحة"، "الاعتراف"، "السَّماح"..
عندما تدق تلك الكلمات الثقال أبواب صندوق استشاراتك، تقرؤها وكأنك تقرأ مأساة ألِفتَ مرارتها.. يَهديك أولُها لآخرها، وتستشف نهاياتها بدقَّة بعد وضوح بداياتها!
ثم تتنهد بعمق، تصرف عينك عن الشاشة قليلاً..، تغمض عينيك، وتعركهما بشدة، ثم تعود لتفتح في دماغك ملفاً قديماً تستنسخ منه إجابة ما.. كنتَ استخدمتها عشرات المرات قبل ذلك.. تبث كلماتها الموجعة إلى هذا السائل أو هذه السائلة، ثم تغلق الاستشارة، وتترقب وصول مثلها إليك في الأفق القريب!!
عجيب والله أمر الخطَّاب!!
لا أعرف لماذا تنقِّب الفتاة أو الشاب في ماضي هذا الشريك بهذه الصورة الموجعة؟!
لا أعرف لماذا تقرره بذنوبه وكأنها الرب الذي يسأله عن «شبابه فيما أبلاه»! أو قل إن شئت: وكأنها وكيلة الرب في الأرض!!
لماذا تتلمس خطاياه، وتمارس البحث الجنائي والتحقيق الفيدرالي في ملفِّ هذا المشتبَه به، وتقلِّب وتدقِّق في صفحات طواها الزمن؟!
ليست هي فقط!! فهو بدوره يفعل ذلك أيضاً، لكن بصورة أكثر شراسة ودهاءً وسياسة ربما؟
بالمناسبة.. هو نفسه لا يعرف: هل حضر خاطباً أم معترفاً؟! هل هذه مخطوبة أم طالبة الغفران في جلسة بين يدي البابا في رواق الكنيسة؟!
سبحان الله.. إن كان الله ستر الواحد منهما، فلماذا يفضح نفسه لمن يقاسمه العبودية؟
لماذا يكشف أوراقه المؤلمة؟
لماذا يثير أرضاً هو أول الخاسرين إن تزلزلت تحته.. أو قررت أن تنتقم من ماضيه؟!
لماذا يعكر كلٌّ منهما صفو علاقته الشرعية بالتنقيب عن شوائبِ تواصلٍ سابقٍ غير شرعي أخطأ فيه الآخر؟!
لمَ لا نترك الارتباط الشرعي يؤثر على غيره ويحكم عليه ويهيمن، وليس العكس!
لماذا نستصحب معنا تفاصيل ظلام النفق بعد الخروج منه إلى فسحة الصفحة الجديدة البيضاء؟!
قد تقول لي: أليس من حق الزوج والزوجة معرفة ماضي الآخر؟
لا، وألف لا، لم يكن حقُّ الاعتراف بأخطاء الماضي يوماً من حقوق الأزواج فيما بينهم، ولا الإجابة عنه نوع من الواجب أو المستحب أو حتى المباح!! بل لعل التحرِّي عنه والتربص له يدخل في المحرَّم، يشمله عمومُ قول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة: 101]
ويشمله الحديث الذي أخرجه الإمام مالك والحاكم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من أصاب من هذه القاذورات شيئاً فليستتر بستر الله».
فليس الزوج وصيَّاً على علاقة زوجته بربها، ولا حاكماً عليها ماضياً ولا حاضراً ولا مستقبلاً، إنما ينصح ويوجّه ويدير، ويصوِّب إن رأى خطأً، ثم هو ليس عليها بوكيل ولا مسيطر، وليست الزوجة كذلك، إنما تنصح وتدعو..
فإن كان من أحد الزوجين خطأ فيما بينه وبين ربه فليستره ما ستره الله عليه، ويستغفر ويتوب، وليعلم أن الله ستّير يحب الستر.
إما إن كان بين الإنسان وبين نفسه شيء، فالزواج فرصة جيدة للبدء من جديد، وإقفال بابٍ طال الصبر عليه، وامتد الأمل بالتسويف في إقفاله...
ينظر: (أختي كانت على علاقة سابقاً، هل نخبر الخاطب بذلك؟)
قد تقول لي: لكنه ألحَّ بشدة، لكنها حاصرتني بأسئلتها المُحرجة والمتواترة!!
أقول: لئن ألحَّ أحد الخاطبين بالحديث عن الماضي فلا بد أن يُنبَّه لسلوكه بحزمٍ وثقة، حتى لا يعيث في العشرة الطيبة فساداً، ولا يسيء الظن ولا يُكثر الشك، وإلا فهذا نذير سوء في السائل، يوجِب النظر بعمقِ قصدِه وحقيقة الحكم عليه والموافقة على المسير معه في درب الحياة..
حسناً.. ماذا إن لم يفهم؟ ماذا إن لم يرتدع؟ ماذا إن أصرَّ؟ هل أكذب عليه لأدرك الخلاص؟
نعم، يمكن تطمينه والتورية له ليستقر خاطره وتهدأ شكوكه، حتى إن اضطر الأمر للكذب عليه؛ فهذا من الكذب المشروع لحفاظ الستر وإقامة العشرة الحسنة بين الزوجين، طالما أن الماضي قد انطوى، وحلَّت التوبة في مكان الذنب.
لكن.. أليس من حقه أن يعرف هذه الفتاة التي سيأمنها على عرضه؟!
أليس من حقها أن تكشف عن "المستور" في ماضي هذا الشاب الذي ستعطيه كل شيء؟!
برأيي.. أن نكف عن التفكير بهذه الطريقة!
هذه الجريمة التي تفكر بها وتتحرى عنها يسبقها بآلاف الكيلو مترات الأخلاقية جريمة اسمها الكذب، سمِّها إن شئت "اللف والدوران"، هي من لوازم هذا الخطأ الذي تبحث عنه وتحاول الوصول إلى كشفه.. أيقِن بأن الطرف الآخر سيمارسها عليك بكل احترافية.. لو كان كما تَظن، أو صحَّت فيه فراسَتك!!
ثم أسألك: أصلاً.. لماذا تمت الموافقة عليه -أو عليها- إن كان هامش الشك بهذا الاتساع؟!
حسناً حسناً.. كيف أعرف ماضيه إذاً؟
لا يهمك الماضي بقدر ما يهمك الحاضر والمستقبل، وبعض مفردات الماضي تشوِّش على الزواج ولا تفيد في بنائه، فكلنا يخطئ، وحق الخطأ حق شرعي.. لقول الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم: «كلُّ ابنِ آدمَ خطَّاء، وخيرُ الخطائين: التوابون» [أخرجه الترمذي وأحمد]
ولأجل ذلك فتح الله باب التوبة والاستغفار لعباده، وأمر بالإعذار والاعتذار فيما بيهم، ثم الصفح والعفو والستر وصلة القاطع والدفع بالتي هي أحسن...
ومن الخطأ أن لا نُقدِّر حقَّ الخطأ، ونعامل الآخر وكأنه معصوم؛ فالعصمة دُفنَت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم!
قد تقول: لكن.. لا يمكن معرفة الحاضر والمستقبل دون معرفة الماضي؟
نعم، هنالك طرق يتحرى فيها الخاطب والمخطوبة، يسأل، يستفسر، يتصل، يناقش، يحاور، يزور، يرسل من يستقصي... المهمّ.. أن نتوقف عن ممارسة هذه الطريقة الحجريَّة، ونكف عن هذه الوصاية المؤذية النمطيَّة، فإثمها أكبر من نفعها؛ وإلا.. فإن النتيجة ستكون البوح بالماضي.. ثم المضي وحيداً.. تاركاً سرَّك عند من لا تعرف..!!
طبعاً.. ستر الماضي لا يعني التستر على الحاضر، فكن صريحاً وكوني صريحة بحقائق الطبع وأخطاء التعامل وعقبات التواصل وكل ما من شأنه أن يوضح تضاريس النفس والشخصية لدى الآخر، ويفسح المجال لوضع أساسات الوفاق والوضوح وطيب العشرة متينة ثابتة على بصيرة..
على الجانب الآخر...
ماذا إذا كان هو يشعر بتأنيب الضمير لأنه إنسان ملوَّث ارتبط بفتاة طاهرة؟!
أو كانت هي تشعر بأنها تخدع إنساناً تقياً نقياً وثق بها لطيبة قلبه وجهله بماضيها؟
أليس من حق الواحد منهما على الآخر أن يطلب منه السماح، أو يتراجع عن الزواج لأنه ليس كفؤاً؟!
التكافؤ بين الزوجين لا يُحسَب بهذه الطريقة، ولئن أراد أحدهما السماح فليطلبه من ربه لا من زوجه، فهو المسؤول عما بينه وبين الله، {وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} [الأنعام:164].
{يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس:34-37].
ولسنا مطالبين بحال أن نطلب السماح في الدائرة الأسرية من زلة زللناها قبل دخول هذه الدائرة، طالما أنها لا تؤثر عليها مستقبلاً.
وكمثال على ذلك تقول إحداهنَّ: تقدَّم إليَّ طبيب جراح، ذو مكانة جيدة وسمعة طيِّبة، لا يُعاب عليه دينٌ ولا خُلق، في زيارته الأولى قال بأنه يريد أن يخبرني سراً لا يعرفه إلا والداه!! لقد تلاعب بأوراق الإدارة في الجامعة يوم كان طالباً، ورفع درجته في مادةٍ كان تخرجه متوقفاً عليها، وذلك لأن أستاذ المادة كان يتحداه أن يتخرج من هذه الكلية لملاسنة وقعت بينهما، والآن تسأل: هل دخل هذا الرجل حلال أو حرام؟!! هل حصَّل مكانته بطريق محرَّم؟! هل يجوز أن أتزوجه؟!
لقد أدخلها في متاهة كان الأولى به أن يفصل في أمرها بعيداً عن هذه المسكينة؛ التي افتتح مسيرته معها بهذا الشكل الساذج!!
(بحث: الكفاءة في الزواج)
حصل ما حصل، وأخبر كل منَّا الآخر بماضيه، وعرفَت ماضيَّ الأسود، ماذا نفعل؟
ببساطة: أعنها على نسيان ما تفوَّهتَ به، أثبت لها أنك تغيَّرت، أنك اليوم مختلف تماماً عن الماضي ديناً وخلقاً وفكراً...، اطلب منها المساعدة لتمام العفاف، اتفق معها على أن لا تعودا لذكر ذلك الحديث الوخيم..
قل لها: إنه يفتق الجروح ويبثُّ الروح في ذكريات الماضي بعد أن غطَّت في سبات عميق...
قل لها: لا بدَّ أن ننساه، لأكون إنساناً جديداً.. وبكل المقاييس..
هل قرأت "كيف أنسى الماضي؟" من كتاب (أنا وأخواتها) للدكتور سلمان العودة؟
ختاماً: تسرني مشاركتكم وآراؤكم وتعليقاتكم على الموضوع أدناه...