ما أروع تلك الأيادي التي امتدَّت للشاب والفتاة لتعين كلاً منهما على الانتقال من قلاقل حياة العزوبة إلى استقرار الحياة الزوجية!

ما أعظم ذلك الشاب العصامي الذي بنى نفسه، وشقَّ طريق مستقبله وحيداً، غير آبه بالعقبات والمعوقات، جاعلاً زواجه نصب عينيه، لكنه ما إن خطى الخطوة الأولى منه حتى ارتكس إلى الوراء، ينوء بأعباء مادية ومعنوية يعجز عن ترجمتها!

ما أشد خسارة الفتاة حين ترى من الخاطب ما يملأ عينَها ويَسُرُّ عقلَها وقلبها، حتى لكأن الله لم يخلقه إلا لها!

ولكن... لا تدري كيف دارت عجلة الأيام بذاك الاتجاه المقيت الذي وضع كلاً منهما على ضفة مختلفة من ضفاف نهر الأمل الذي يكان ينبع منهما ويصب فيهما!

لأجل ذلك.. قلَّبت ناظري وخاطري في أكثر الأسباب التي تفرق الأحباب في مرحلة الخطبة، وتدفع كلاً من الخاطبين أو أحدهما للتفكير بالتراجع، فرأيت أهم الأسباب هي:

السبب الأول: طول مرحلة الخطبة.

السبب الثاني: الاختيار الخاطئ.

السبب الثالث: عدمُ تقبلِ كل من الخاطبين لطبيعة أسرة الآخر.

السبب الرابع: السعي من الطرفين لمعرفة ماضي الآخر وخفاياه.

السبب الخامس: المسلَّمات الخاطئة.

وهذه الخمسة تناولتها مقالة الأسبوع الماضي: (عندما تصير الخطبة خطوة للوراء 1).

 

وأتابع الحديث في مقالة اليوم لأتناول الخمسة البقية:

السبب السادس: كثرة الزيارات، وتوقيتها الخاطئ:

 

 

"نعم، فهمنا أنه يحبها، لكننا لم نستطع أن نتهضم زياراته صباح مساء ! "، كانت هذه كلمات والد الفتاة الذي انفجر ذات ليلة في وجه خاطب ابنته، وأسمعه ما لا يليق بهما.. والسبب: لقد طفح الكيل ثِقَلاً وغلاظة! حتى صار ثقَل هذا الضيف أرقاً يعاني منه كل أفراد الأسرة، باستثناء المخطوبة طبعاً smiley

عجيب هذا الشاب! ألا ينتبه أن التشوق إليه واحترام مقدَمه يتناقص تدريجياً مع توالي الزيارات؟!

لو أدار شريط ذكرياته لرأى يومَ كان في استقباله عند زيارته الأولى أفراد الأسرة كاملة، ولعلهم دعَوا بعض أقربائهم المتميِّزين، يرفعون بهم رأسهم أمام الصهر الجديد، لكن الزيارة الثانية كانت قريبة جداً، كان يومها والد الفتاة ووالدتها فقط في البيت، وبعد أن توالت الزيارات صار ذاك الصغير -آخر العنقود- هو من توكَل إليه مراسم استقبال الصهر الجديد! 

قد تراه راضياً بذلك، وتسمعه يبرر قائلاً: أهل زوجتي كأهلي! لا أبداً، ليسوا أهله! ولم يكونوا كأهله يوماً ! فليرصد لهم من الحب ما شاء، وليحمل لهم من الاحترام ما أراد، لكن... عليه أن لا ينتظر صبر أبويه وحنانهما واهتمامهما.. من غيرهما!

طبعاً ليس بالضروة أن تكون كثرة الزيارات فحسب هي الطريق الموصلة إلى هذه النتيجة، فربما كانت الزيارات معتدلة فعلاً، لكنها في توقيت خاطئ، كأن يُتحِفهم برؤية وجهه الكريم عند الساعة الحادية عشرة ليلاً، والسبب: أنه يتأخر في عمله، هكذا طبيعة عمله! وماذا يعمل أهل الفتاة؟ يصبروا، هل عندك حلٌّ آخر!!

شاب ثالث يأتي في اليوم الذي تجتمع فيه العائلة، إنه -بحق- يأسرهم ويُزعجهم، خاصة إن كان البيت ضيقاً وأراد والفتاة أن يجلسا لوحدهما في غرفة.. ليتركوا بقية الشعب كله في غرفة أخرى، يتمتع بالدفء في هذا الشتاء القارس!

طبعاً هنا أجد ضرورة ملحة للإشارة إلى شباب يقفون على الضفة الأخرى تماماً، إنهم ينقطعون عن المخطوبة الشهور والأسابيع للحفاظ على هذه المنزلة التي يحملونها في أذهانهم، لكنهم لا يعلمون أن "البعيد عن العين بعيد عن القلب" وأن هذا الجفاء له تأويلاته المخيفة عندما تقرأ المخطوبة فنجانها!! frown

 

السبب السابع: التعامل باعتبار ما سيكون:

هي زوجتي... هو زوجي... هذه الكلمات يرددها الخطَّاب، تحمل وراءها معاني خطيرة! وتبنى عليها سلوكيَّات خطيرة أيضاً!

  • هي زوجتي: هذا يعني أنها لن تخرج مع أمها أو أبيها أو أختها أو أخيها إلا بعد إذني!
  • هي زوجتي: هذا يعني أن له الحق أن يخرج معها متى شاء، ويرجع بها إلى بيت أهلها متى شاء، غير آبه بحديث الناس وإحراج الأهل!
  • هو زوجي: يعني أنه زوجي، يحل له مني ما يريد بغض النظر عن الحماقة المسماة "ليلة العرس"، فهو غير مضطر للانتظار!
  • هو زوجي: يعني وجوب أن أعرف خروجه وولوجه، وذهابه وإيابه، أصحابه وأحبابه، طبيعة عمله ومقدار دخله...!

وهذا ما يوقع كلاً منهما بإحراجات أمام الذات، والآخر، والأهل، والناس... تجتمع مع بعضها كنسمات خفيفة تَثقُل على أوراق هذه الزهرة الغضة الناشئة، فتبعثها مع أدراج الرياح! 

 

 

الشاب العاقل لا يُحرج الفتاة أمام أهلها، ولا يضع نفسه مع أهلها في ميزان واحد ويوكل إلى الفتاة مهمة تدبُّر اعتدال هذا الميزان، أو يجعل الفتاة كحبل يأخذ بطرفه، ويترك للأهل طرفه الآخر...!

لئن فعلها فهذا دليل خلل في محاكماته! يحفر به قبر الأسرة الجديدة قبل أن تولد!

 

السبب الثامن: الأحاديث العشوائية:

عندما يزور الشاب الفتاة في مرحلة الخطبة، يتشوَّقان للحديث معاً، فالحديث له أسرار، وخلفه أسرار، وبينه أسرار، وهناك لذَّة تصحَب هذا الحديث -أياً كان مضمونه-، ولذلك يتم الحديث لمجرد الحديث، وبعد ذلك تكون التحليلات والتعليقات والانطباعات التي يتم ربطها بأحداث أخرى قد لا يتوقف تاريخها عند ميلاد جدِّ جدَّتي... بل ربما يتجاوزه إلى سبعة أجداد كحد أدنى، وذلك لضرورة التحليل المنطقي!!

 

 

بعد انتهاء الزيارة.. يتم إدخال البيانات إلى خانة العقل بعد أن كانت مقفلة لأن خانة العاطفة في اللقاء كانت تحتل الساحة -طبعاً والأمر ليس عاماً فهناك استثناءات-، بعد ذلك يبدأ نظام التوازن بالعمل... يتم تحليل الأسرة التي سيتم الارتباط بها؛ وذلك من خلال الإطناب والإسهاب الذي تم الغوص فيه من أحد الطرفين أو كليهما!

هذا يثير زلزالاً كان كل منهما بغنى عن إثارة أرضه، وكان يسعهما شيء من الدراسة المعمَّقة لجدوى الأحاديث التي تدور بينهما، ثم تخمين آثارها التي تترتب عليها بعد اللقاء.

 

عن ماذا يتحدثان إذاً؟

ينفع أن يحدِّثها الخاطب عما يحب، وعمَّن يحب، وتحدثه هي كذلك...

ثم يخبرها بما يكره، ومَن يكره، ولماذا يكره...، وهي تحدثه بدورها عن ذلك...

له أن يختبر ردَّات فعلها، وتختبر ردَّات فعله، ويتعرَّف كلٌّ منهما على منظومة المسلَّمات المتعلِّقة بالزواج والأسرة والأولاد والعلاقات الاجتماعية... في ذهن الآخر.

كما يمكنهما أن يتناولا الحديث عن طبيعة الزيارات المرغوبة من الأهل، وطبيعة التواصل المقبولة لكل منهما مع الأهل بعد الزواج.

يمكن أن يتشاركا الحديث عن أحلامهما المستقبلية، ويتعرفا على المستوى المادي المتوقع لهذه الأسرة الجديدة، وطرق تنميته، ووسائل علاج المشكلات التي ستنشأ حتماً بينهما، وما الطرق التي يفضلها كل منهما في التعامل والحلّ... 

وإن أردت التوسع في ذلك فقد يهمك الاطلاع على مقال: (بماذا نتحدث في الزيارة الأولى؟)

 

السبب التاسع: الكذب في الحال والمقال:

يروى أن سليمان بن داود عليه السلام مرّ بعصفور يدور حول عصفورة، وكان عليه السلام يفهم منطق الطير... 

 

 

فقال عليه السلام لأصحابه: أتدرون ما يقول؟ قالوا: وما يقول يا نبي الله؟

قال: يخطبها إلى نفسه ويقول: زوجيني أسكنك أي غرف دمشق شئت!

قال سليمان عليه السلام: (لأن غرف دمشق مبنية بالصخر، لا يقدر أن يسكنها أحد، ولكن كل خاطب كذاب!).

 

الكذب في مرحلة الخطبة بمثابة عيِّنة وخيمة عن مدى تدهور الخلق والدين والمبدأ والقيمة لدى صاحبها، يكفي القليل منها ليحكم كل منهما على فساد الآخر.. ثم يبحث في طرق الخلاص منه..

وكتجربة شخصية: أذكر عندما خطبت زوجتي أرسلَت لي أمُّها مع أخيها تقول: إن ابنتي شديدة الغيرة، وأريد منك عهداً أن لا تتزوج عليها؟

وأم زوجتي ذات عقل راسخ، أرى منها إلى الآن محبة كبيرة وحياء منِّي منقطع النظير!

يومها قلتُ لخال زوجتي: حسناً، ولكن بشرط، أن تعطيني هي عهداً أن تبقى على ذمة عمي "والد زوجتي" حتى يفرِّق بينهما الموت!

عرفَت أمُّ زوجتي يومها ما أقصد! وأن الأيام القادمة لا يضمَنها أحد، ولذلك لم أقدِّم ضمانات تقوم على اندفاع قائمٍ اليوم، ويهدمها حين يخبو، فتُحسَب عليَّ كذبة!

بعد سنين طويلة وبعد خمسة أولاد قالت لي زوجتي: إن والدتها حين وصلَها كلامي ذلك اليوم ضحكت، وقالت: أعجبني صدقه ووضوحه!

الشاب الصادق الواضح، والفتاة الصادقة الواضحة، يضعان معاً أسس علاقة زوجية متينة، لا تهزها رياح الأيام!

 

 ومن جملة الكذب في الحال: الكذب في الهدايا...

فعندما يقدِّم الشاب هدية تساوي قيمتها تسعة أعشار راتبه فهو كاذب، يوهمها أن هذا هو المستوى الذي ستقوم عليه الهدايا بينهما مستقبلاً، وهي بدورها تحاول أن ترد في المستوى نفسه، فتستجمع ما ادَّخرت وتستدين من أخيها، وتستلم من أبيها مصروفها لمدة ستة أشهر قادمة، ثم ينقصها شيء فتطلب من أمها سداده حباً وحناناً... لتشتري الهدية وتقدِّمها لهذا الخاطب، الذي يقرأ منها عشرات الرسائل الوهمية، التي ينكشف زيغها فيما بعد!

 


بعض الفتيات تطالب خاطبها أن يكذب عليها في الهدايا، وإذا ما أهداها هدية كنموذج لهدايا يمكنه تقديمها بشكل شهري ودوري بعد الزواج فإنها ترميه بالبخل! ليجد نفسه بين رذيلتين: الكذب أو البخل!

ومن جملة الكذب في الحال أيضاً: إخفاء الطباع في مرحلة الخطبة، واستفراغ الجهد بالنفاق والمجاملة وتجنب المواجهات الصريحة واللطيفة، هذا الذي يصدَع العلاقة ويُلبسها ثوب التكلُّف والحذر، لتثور الشكوك وتبدأ مرحلة التنقيب عن المَخفي، والذي لا يكون غير طبعٍ قد يمكن التأقلم معه، وقد لا يمكن!

 

السبب العاشر: المشكلات العاطفية:

 

 

مع أن الخطبة هي الميدان المفضل للعاطفة، لكن اللعب بطريقة خاطئة في هذا الميدان له آثاره التي تغرز مخالبها عميقاً في نفوس الخطَّاب!

ولا تنحصر المشكلات بالبخل العاطفي، فهي أيضاً يمكن أن تكون بسبب الفرط العاطفي!

والتوازن هو مهمة كلٍّ منهما في هذه المرحلة، الرجل عادة يقدِّم قليلاً من العاطفة، ويكفيه القليل منها، لكنه يثور إن قلَّ هذا القليل، ويزهد بالطرف الآخر إن زادت الجرعة عن حدِّها!

والمرأة يكفيها في هذه المرحلة أيضاً القليل من العاطفة؛ مع رغبتها القائمة في الازدياد، لكن قدرة الرجل على العطاء العاطفي غالباً، مع الجِدَّة المشاعرية بينهما، تجعل قليل العاطفة يعطي مفعولَ كثيرها، وكثيرها يُبطِل مفعولَ قليلها وكثيرِها...

(قد يهمك: الفراغ العاطفي بين الزوجين)

طبعاً في هذه النقطة الناس تتفاوت تفاوتاً عظيماً، لكن الذي أريد أن أقول أن فرط العاطفة وشحَّها نواةٌ لكثير من المشكلات الأخرى بين الخاطبين، والتي تشكِّل بمجموعها ثقلاً نفسياً عليهما، وتتكفَّل بإعادة النظر بهذا الارتباط.

 

 ختاماً:

رأيتُ هذه النقاط العشرة أسباباً مباشرة تضرب بسيف الفراق بين قلوب الأحباب من الخطَّاب، لكن هناك أسباباً غير مباشرة؛ لا يمكن أن يحصيَها هذا المقال، لكن التنافر له قانون عامٌّ حدَّده قوله تعالى: {فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} [المائدة:14].

وفي الحديث: «وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ مَا تَوَادَّ اثْنَانِ فَفُرِّقَ بَيْنَهُمَا إِلَّا بِذَنْبٍ يُحْدِثُهُ أَحَدُهُمَا» [رواه أحمد].

وأرحب بإضافاتكم في التعليقات أدناه...