في لحظات الخلوة بالنفس والصفاء مع الذات، تبرق في النفس بوارق السعادة، تجد نفسك تأخذ ذاك النفس العميق المفعم بالشكر المليء بالرضى على هذه النعم التي حباك الله إياها، تستشعر عظمتها وتواترها وتواليها، وكذلك تستشعر عجزك عن الشكر، وتبتسم روحك قبل أن يبتسم ثغرك..
في جمال هذا الحال يأتيك هاتف النفس:
كيف تطيب لك السعادة وأهلك وأحبابك يتجرعون مرار الابتلاء؟
ألا تستحي على نفسك أن تعيش لحظات السرور وهم يتقلبون بين الشرور؟!
عليك أن تبقى دائم الهم كاسف البال شارد الحال حتى يأذن الله بفرج من عنده لأهل جلدتك وبني قومك!!
عليك أن تجند نفسك وتفرغ وقتك وتكرِّس طاقتك للكتابة عنهم، والحديث عن شأنهم، ومضغ السياسة كما يمضغها غيرك ويتشدق بها دون علم ولا خبرة ولا مصادر صحيحة! عليك أن تشاركهم رؤاهم الساذجة، وتقول -في من قال- من دون تخصص، وتبدي رأياً من دون علم، ولا تبالي بما يمكن أن تصنع كلمتك -أو شطرها- في مسار هذه الأمة، ولا تحاسب نفسك عن صداها في أفق هذا العالم!
بعد ذلك.. تأتيك صور أحبابك في موطنك يجتمعون في سهراتهم على ما تيسرَ لهم من الأنس والضحك والخير -مع أن في قلوبهم ما فيها- تجد حسد الغبطة يزحف إليك، تقول: ليتني كنت معهم فأفوز فوزاً عظيماً، ليتني كنت مطالباً -كما هم مطالبون- بالبحث عن بوارق الهنا في طيات الشدائد، وأشعة الفرح بين ثنايا الحزن اللئيم، بدل أن أبحث عن ضيق الشدَّة في لحظات الفرَج، وأستحضر الهم في لحظات الانشراح، وأتنفَّس النكد في مواطن الشكر!
حقيقة.. لقد وقعتُ فعلاً في هذا الفخ -ومثلي كُثُر-، لقد تواترت علينا الأحزان، ممزوجة بمرار الغربة، مكسوَّة بهمِّ السعي على العيال، والحزن على مصارع الإخوة الشهداء، والشوق للأهل والأوطان، فصرنا نستكثر على أنفسنا شبع لقمة، ونستذكر أحوال المخلَّفين ومآسيهم!!
لكني في لحظة ما.. سألت نفسي:
هل تعبَّدنا الله بذلك؟
هل أتقرب بهذا إلى الله أو أنفع به الأهل والأصحاب والأحباب والمجتمع؟!
هل ما تطالبنا به إنسانيتنا -في هذه النقطة تحديداً- منسجم متوافق مع ما أراد الشارع الحكيم لنا؟!
هل يجب على أطفالنا أن يدفعوا ضريبة خروجهم من بلد الحرب عيشاً نكِداً مع أهل ألِفوا الشرود واعتادوا الصراخ بعد طول كبت؟!
(حين تتحول إلى إنسان مكتئب بسبب أوضاع أمتك.. فهذا ليس مطلوباً شرعاً، ولا يسهم في حل الأزمة..استعن بالله ولاتعجز واعمل وسعك وقل: قدَّر الله وما شاء فعل).
[د.سلمان العودة]
ثم أدير نظري في الشرع، لأرى النبي صلى الله عليه وسلم يقيم عرساً له في طريق عودته من غزوة جُرِح فيها من جُرح، وقُتِل فيها من قُتِل، يوصينا بأن نحب للأخ ما نحب للنفس لا أن نزج النفس فيما نكره لها وللأخ، يأمرنا أن نتفقد الأهل والأرحام والجيران، لا أن نعتكف على ندبِ حظنا على ما أصابهم!!
ثم أسأل: تُرى هل هذه قراءة أنانية لأحداث السيرة النبوية؟!
(نعيش حياتنا رغم كل المآسي... ادعوا للشهداء، وقوموا بواجبكم تجاه المنكوبين، وتفاعلوا مع قضايا الأمة، وعيشوا حياتكم في نفس الوقت، ولا تناقض!)
[د.طارق السويدان].
طبعاً.. لا أتحدث هنا عن مخرج يتجلى في حالة من الحزن الإيجابي المتمثل في السعي لنفع مَن وراءنا، ومدِّ يد العون لهُم مادياً ومعنوياً، فهذا مفروغ منه، لكني أتكلم عن حقنا بالسعادة التي هجرنا الأوطان حين هجرَتْنا، وهِمنا باحثين عن أدنى مستوياتها في أرض الله الواسعة.. لنصادفها بعد ذلك وقد رافقها ملام النفس اللاذع وسكنات الحسرة وتنهيد الألم! فرحنا نبحث من جديد ونتفقد تلك البوصلة التي أوصلتنا إلى هنا.. ترى: هل كانت تشير يومها إلى المسار الصحيح؟!
إنني لا أقول أن نرقص على حطام الأمة، ولا أن نصفِّق لسقوطها الحر، ولا أن نستشعر نعمة وصولها إلى الحضيض بسلام... لكني أقول.. أن البسمة والتفاؤل والسعادة هي روح هذه الزهرة التي تنبت في أرض جدباء.. لتغدو بعد حين شجرة باسقة طيبة، أصلها ثابت، وفرعها في السماء..!
حقاً.. أنا لا أسعى للتملص من رابطة الإنسانية التي تربطني بذويَّ، ولا أتشوف إلى التخلَّص من ذلك الهم الذي خرجتُ منه وخلفتُ فيه ورائي من خلَّفت، بل لعل أسرتي أسوأ حالاً من كثير من الأسر حولي، ويربطني بها أمتن رابط أسريّ لك أن تتخيله، لكني أبحث عن حقٍّ لي لا يطيب لنفسي أن تأخذه، وحق لأطفالي لا أطيب به بذلاً! ثم أقول: ليتني بقيتُ مع من بقي، لكنت -على الأقل- لا أبتسم مقيداً، ولا أضحك معقداً!!
كذلك.. أنا لا أرى نفسي غير مسؤول عما يجري اليوم في العالم، فأنا أقاسم الجميع تلك المسؤولية التي أودت الحال إلى هذا المنتهى، لكني أوقن أيضاً أني لست المسؤول الوحيد الذي يلتفت إلى سعادته ويدير ظهره إلى العالم وهو يحترق بسببه!!
بل أنا أشعر بالقهر كما يشعر به سواد أهل جلدتي، ولا أدعو للسعادة من فراغ.. فأخي شهيد، وجدي شهيد، وابن عمي وابن عمتي وابن خالتي وجاري وابن جاري وخيرة أصدقائي وزملائي وطلابي... كلهم قضوا تحت وطأة هذا الظلم.. الذي حطَّم في مساره اللئيم بيت العائلة وما حوى من ذكريات الطفولة والفتوة والشباب..، ولم يسلم والداي من الشظايا والحياة بعض الوقت تحت الركام كغيرهم من السوريين! ثم عشت بعد ذلك النزوح الخارجي تاركاً بيتي لمن يسرق أثاثه فيرد به برد الشتاء قبل أن ينسفه قصف العتاة، وعاش إخوتي وأخواتي النزوح الداخلي تاركين بيوتهم مثلي..! لكني مع كل ذلك.. لا زلت أرى فسحة للحياة، للابتسام، للإيجابية، للمضي قدماً على ظهر هذا الكوكب قبل أن يبتلعني بطنه!
(كونك مازلت حياً الى يوم آخر، فهذا يعني أن هناك أمل!)
[د. فكتور فرانكل]
لا زلت أؤمن بأن هناك فسحة للسعادة ما دمت حياً! لا زلت أبحث عن ذلك الضوء الذي بحث عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال للصديق: {لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة: 40]. فلماذا أعمد إلى سعادتي فأدفنها قبل أن أُدفًن؟! لماذا أرثها ولا ترثني؟!
لماذا أقف على خط وسط بين الأحياء والأموات.. بجسد حي.. ونفس مريضة.. وقلب ميِّت؟!
هل تابعت فيديو "واو وأخواتها" لأحمد خيري العمري؟
ختاماً..
إن رأيت أن لا تسعَد فهذا شأنك.. لكن لا تحرِّم السعادة على غيرك، ولا تنتقد من يعيشها، ولا تطلب من الناس أن يؤمنوا بوجهة نظرك.. أن يقطبوا جبينهم في فراغ كما تقطِّب جبينك في حزن لا ينفع هذه الأمة بقدر ما ينفعها فعلك.. لا تطالب غيرك أن يتجرع المرار لتقتنص أنفاس السعادة في غفلة منه من وراء الحجاب!
فاسعَد وانفَع، خير لنا من أن تحزن ولا تنفع!