كم حلمنا بها.. كم خططنا لها.. كم راقبنا أولئك الذين ينعمون بها..

كم وقفنا أمام واجهات الذهب والفضة، نبحث عن ذلك الخاتم الذي يليق برفيق الحياة وشريك المستقبل..

إنها الخطبة.. أمَل الشباب العزب، ومستقرُّ حنين المتزوجين، ومحور حديثهم ونواة انطباعاتهم وتربة بذار أحلامهم...

إن الحديث عن تلك المدَّة حديث ماتع، لا تمله النفس ولا يخبو بريقه في عجلة الزمن.. 

لكن.. على الجهة المقابلة هناك نصف يغوص في الظلام، في حين تتركز الأنظار على تلألؤ النصف المشرق من "كوكب الخطبة"، لذلك سأنتقل إلى النصف الآخر من هذا الكوكب؛ لنتحدث عن مرحلة الخطبة بإيقاع مختلف إلى حد ما عن ذلك الذي نسمعه عنها، لننظر في نواة الاختلافات وبذور المشكلات التي يتم زرعها عبثاً أو خطأ أو تهاوناً في تلك البقعة من الحياة.

 

 

بداية: إن المرحلة التي تسبق الزواج لها أهمية كبيرة في تقارب الطرفين، ومعرفة كل منهما للآخر، ففيها يُراجع كل من الخاطبين حساباته ويتروى بقراراته حتى تقوم الأسرة الناشئة الجديدة على بناء متين لا تهدمه رياح الحياة ولا تهزه عواصفها ومطباتها فيما بعد.

ومن الطبيعي جداً أن تشتمل مرحلة الخطبة على عدد من النقاط التي يختلف فيها الخاطبان أو الأسرتان، فلكلٍّ منهما عاداته، أفكاره، مسلَّماته، قواعده الحياتية التي تتفاوت في اختلافها بمدى اختلاف كل من البيئتين مادياً ومعنوياً.

وللأسف الشديد، فإن كثيراً من الشباب تنقطع بهم مؤونة التفاهم والتواصل قبل أن يدخلا ذلك القفص الذهبي ويستقرا في عش الزوجية معاً، ليتراجع كل منهما عن قرار الزواج نتيجة لتلك المشكلات التي تطرأ في أثناء مرحلة الخطبة، أو بين العقد والعرس لها ألف "حلال" غير الفراق!

إنك تشفق -بحَقّ- حين تراهما يفترقان لمشكلات عابرة لم يعرفا طرق التعامل معها، وقد كان بالإمكان معالجتها بأكثر من طريقة، لكنك لم تعلم بالأمر إلا بعد أن وقع "الفاس بالراس"، وبدأ الصدع بين الطرفين يتزايد، ويمنحه امتداد الأيام وتطاولها صلابة وقساوة وتعنتاً تخيم ظلالها على القلوب..

 

 

ويبقى الأمر على حاله، تاركاً كلاً منهما لتساؤلاته:

- ترى.. هل يحنُّ لي كما أحنُّ له؟ هل يتأمل بالعودة كما أتأمَّل؟

- هل تراجع حساباتها كما أراجع حساباتي؟

- هل هي مستعدة فعلاً للتنازل مثلي لنعود كما كنا؟!

- فعلاً.. لماذا فسخنا الخطوبة أصلاً؟ ربما عين! أو خطة حاكتها الحماة! أو "ما في نصيب"!!

وبعد أن نظرت في أكثر الأسباب التي تخلق المشكلات في أيام الخطبة وتدفع كلاً من الخاطبين أو أحدهما للتفكير بضغط ذلك الزر على لوحة مفاتيح حياته (ctrl + Z) ليتراجع خطوة إلى الوراء بعد أن أعدَّ لها وخطط لها وتأمَّل بها، ثم خاض فيها... رأيت أهم الأسباب هي كالآتي:

 

السبب الأول: طول مرحلة الخطبة:

 

 

نعم، من الطبيعي جداً أن يرافق طول مرحلة الخطبة مشكلات جديدة متنوعة ومتعددة، يقف بعدها كلٌّ من الخاطبين مواقف لا تتناسب مع الحال، ويتصرَّف بطريقة هو أوَّل المستغربين منها! وذلك لاحتقان داخلي سببه الرغبة بتمام هذا الزواج، واستعجال لإطلاق هذه الأسرة التي طال انتظار نَبلها في قوسِه!

قد تكون المشكلات ناتجة عن وضوح أخطاء عند الآخر لم تكن مكشوفة من قبل، وهذا أيضاً طبيعي، ومن أراد الزواج من شخص لا أخطاء عنده فأنصحه بالشهادة في سبيل الله، لأن الله تعالى سيزوجه بعدها من أهل الجنة!!

لذلك أخي الخاطب أختي المخطوبة: إن وقعَت الخلافات بينكما، ثم خلا كلٌّ منكما بنفسه ولم يجد لها سبباً مقنعاً.. فاعلما عندها أن السبب هو طول مرحلة الخطبة، وليس اختلافُكما على التوافه بالمشكلة الكبيرة في هذه المرحلة، ولا خروجاً عن المألوف، لكن المشكلة تكمن في إعطاء هذه الخلافات أهميةً أكثر مما تستحق، والوقوف عندها أطول مما تستأهل، فهذه المشكلات ستنتهي -يقيناً- بمجرد انقضاء مرحلة الخطبة، فرفقاً رفقاً... فالأيام القادمة تحمل بين طياتها الحل.

 

السبب الثاني: الاختيار الخاطئ:

 

 

وهو من أعظم الأخطاء وأقبحها، وأبلغها أثراً وأكثرها امتداداً، فالشاب الذي لا يُحسن اختيار الفتاة وأسرتها ستبدأ المشكلات في حياته مع مطلع الارتباط بهذه الأسرة، وسيستمر البلاء معه إلى آخر حياته، حتى لو وقع الطلاق بعد ذلك فلا ضمان أنه سيسلم من شرور هذه الأسرة وبلاياها!

ولذلك يلزم كل مقبل على الزواج أن يتروَّى باختيار زوجته، فهذا هو أهمُّ قرار يتَّخذه في حياته ربما؛ فهو اختيار شريكة الحياة، ورفيقة الدرب، وأُمِّ الأولاد، وإن مستقبل حياته -والتي لن يعيشها غير مرة واحدة- مرتبط بهذا القرار، وعليه أن يُراجع به نفسه تريليون مرة على الأقل، ويستشير لأجله السبع مليارات التي على وجه هذا الكوكب laugh، فإن رأى الأمر مقبولاً استخارَ بعد ذلك ربَّه جل وعلا.

لقد بتنا نرى جميعاً أن هذا الاختيار اليوم يقوم على أسهل الأسباب وأكثرها سطحية، يكفي أن تضغط الفتاة على منشوراته بعض الإعجابات، وتزف إليه بعض التعليقات، وتظهر منشوراتها على رأس القائمة في الأحداث الجديدة، ليكون ذلك أساساً لاختيار يقوم على قرارات مستعجَلة مغطَّاة بوهم مريح، ومحاكمات مغلوطة، وكلمات مزيَّفة!!

إن وجود هذه الفتاة في قاعتك الجامعية، أو في تجمُّع اللاجئين الذي تم فرزك إليه، أو في وظيفة "الكاشير" في المول القريب من منزلك، لا يعني بالضرورة أنها مناسبة كزوجة لك..!

وكذلك فإن وجوده في دائرتكِ الرسمية مع حفاظه على صلواته، ومتابعتك لمنشوراته الرصينة والمفيدة والمرحة لا يعني أبداً أنه شاب صالح ومناسب..!

 

 

إن الصداقة، والإعجاب، والحب، الرغبة في التواصل، تغرر بالشاب والفتاة الذين لم يعرفوا بعد طعم الحصرم، ولم يضرسوا منه، إنهم ينخدعون من حيث يدرون أو لا يدرون، فاختيار الزوج أو الزوجة لا يُقبَل فيه استئثار النَّزوة أو ترجيح كفة العاطفة، أو الاستحسان والاستظراف والاستهواء والميل القلبيّ المتبادل دون النظر في مواصفات الشاب والفتاة كالدين والـصلاح والـوعي والخلق والمسؤولية والنظافة...

نعم، لا بد مع ذلك من النظر إلى الجمال والحسب ومراعاة المسألة العاطفية، لكن بناء الاختيار على مجرد الميل القلبي وحده وخوض غمار الزواج بسلاح الحب وحده سيوقع كلاً منهما في خسائر كبيرة، تبدأ من ذلك الجهد الكبير الذي يتم بذله في مرحلة الخطبة لتجاوز نقاط الاختلاف التي من الخطأ تجاوزها!

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تخيَّروا لنُطَفِكُم, فانكِحوا الأكفاء وأنكِحوا إليهم» [أخرجه ابن ماجه والحاكم].

وكان عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه يقول لأولاده: (يا بَنيّ، الناكحُ مُغْتَرِس, فلينظر امرؤٌ حيث يضع غَرْسَه، والعِرق السّوء قلَما يُنجِب إلا مثلَه).

 

السبب الثالث: عدمُ تقبلِ كل من الخاطبين لطبيعة أسرة الآخر:

بعد أن يتحدث الخاطبان عن نظام البيت وأسلوب الحياة لعل أحدهما أو كلاهما ينفر من اختلاف منهج حياة الآخر عن منهج حياة أهله، والحق أنه من الطبيعي أن يرى كل منهما هذا الاختلاف بين أسلوب حياته الذي تعود عليه مقارنة بأسلوب حياة الآخر.

ويبدأ التباعد بينهما عند انتقاد هذا الأسلوب في الزيارة الثانية أو الاتصال الذي يلي الزيارة الأولى، فمن الطبيعي أن يدافع الطرف الآخر عن أهله عندما ينتقدهم هذا الوافد الجديد، خاصة إذا كان الانتقاد والمقارنة بطريقة غير مناسبة ولا مجدية، ودون فرز ما يمكن أن يؤثر على حياتهما المشتركة مستقبلاً وما لا يمكن أن يؤثر بحال!

 

 

 أخي الشاب: الأولى أن تكف عن مقارنة أسرتك بأسرة مخطوبتك، وتوقف عن انتقاد والد الفتاة ووالدتها وإخوتها وبيتها...، فمالك ولهم؟ وهل تتوقع أن يتغيروا بانتقادهم أمام ابنتهم؟! هل تتخيل أن يتغير نمط حياتهم بتوجيهاتك القيِّمة لابنتهم؟!

إن كنت تظن ذلك فأنصحك بـ "فرمتة" مسلَّماتك الحياتية، فيبدو أنها تقوم على عدد من الأساسات المغلوطة والأوهام غير المنطقية!!

سأدلك على خير لك من هذا النقاش العقيم الأليم، أن تتحول عن ذلك إلى الحديث عن نمط الحياة المستقبلي الذي تحب، وتشارك زوجتك بهذا التخيل، وتتأكد أن الله سيلقي بينكما بعد الزواج مودة ورحمة تقرِّب بينكما وتؤلِّف قلبيكما وتجمع رأييكما، فلا تضع العصي في العجلات التي لا تهمك!

 

السبب الرابع: السعي من الطرفين لمعرفة ماضي الآخر وخفاياه:

الاعتراف بالخطأ خطأ في هذه المرحلة، ما لم يكن ذلك مؤثراً على طبيعة العلاقة حالياً أو مستقبلاً، وهذا من أكثر الأخطاء تكراراً بين الخُطَّاب، ويمكنك مراجعة مقال: "الصراحة الآثمة" واستشارة رقم "1007".

 

السبب الخامس: المسلَّمات الخاطئة: 

 

 

بعضنا يستند في اختياره إلى معادلة يراها أزلية، ونتيجة يظنها حتمية، تكمن في قناعته بأنه سيرتبط -وبلا أدنى شك- مع إنسانة توافقه طيبة قلبه وسلامة صدره وأمانته وعفته...، وهي تؤمن كذلك بأنها ستتزوج بلا ريب بمن يقدِّر مشاعرها ويحترم كرامتها، ودليل كل منهما قول الله تعالى: {الطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ} [النور: 26].

حقيقة: إن هذه الآية تحوي تنبيهاً لا تطميناً، وتكليفاً لا قانوناً، وتوجيهاً لا ضماناً، تقول لكل شاب وفتاة: إن كنت طيباً فاحذر أن تتزوج خبيثة، ابحث عن طيبة النفس والمنشأ ، ابحث عن طيبة السُّمعة حسَنة العقل، واحذر الفتاة الخبيثة، فلها شباب خبيثون يليقون بها، فالآية نفسها تقول: {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ}.

وإن كنتِ طيبةً فلا تقبلي أن تسلِّمي زمام أمورك وقرار حياتك لمن لا يتقي الله فيك، لمن لا يرعى كرامتك ولا يصون كيانك ولا يعرف قدرَكِ بعد أن ضيَّع قدرَ نفسه! دعيه.. ففي الحياة آلاف الأكفاء غيره!

لا تقولي لي أنكِ ستعملين على هدايته، ولا تقل لي أنكَ ستقنعها بالإسلام أو بالحجاب...، وأنك تريد أن يكتُب الله هدايتها على يديك، أو تقول الفتاة مثل ذلك.. ، هذا وهم، نادراً ما يتحقق واقعاً، فلا تقامر بحياتك، ولا تراهني بحياتك، نعم، ربما تسعدين لكنك غالباً ستشقين..

 

هذه خمسة أسباب رأيتها تسبب المشكلات في أيام الخطبة، حتى تدفع كلاً من الخاطبين للتراجع والفسخ:

  1. طول مرحلة الخطبة
  2. الاختيار الخاطئ
  3. عدمُ تقبلِ كل من الخاطبين لطبيعة أسرة الآخر
  4. السعي من الطرفين لمعرفة ماضي الآخر وخفاياه
  5. المسلَّمات الخاطئة

وللحديث تتمَّة بخمسة أسباب أخرى في مقالة: (عندما تصير الخطبة خطوة للوراء2)
وهذا لا يغني عن آرائكم أدناه blush