حقُّ الخطأ حق شرعي.. كلُّنا يخطئ ويصيب، كلنا يسقط ويقوم، ثم يسقط، ثم يقوم، وهكذا... «كل ابن آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون» [الترمذي].

لكن بعض أخطائنا قد تكون جرائم في حق الذات، أو في حق الغير..

قد تنقل هذه الأخطاء صاحبها إلى مسار آخر، أو مستوىً آخر.. وربما.. إلى عالم آخر..

 

- فتوى أصدرها عالم، موقف تبنَّاه، أو رؤية أفصح عنها.. كانت سقوطاً حراً أحرق أوراقه بين أقرانه، وأصمَّ آذان متابعيه عن كلامه، ودفنَه تحت عمق قاعدة الهرَم بعد أن تربع على ذروته..

 

- تلك الفتاة.. لم تدرِ أن ذهابها مع هذا الحبيب الذي سيخطبها بعد أيام، لترى البيت الذي سيجمع قلبيهما، ويقرِّب ما بينهما، ويحقِّق أمانيهما، وينقلهما من إغفاءة الحلم إلى يقظة الواقع.. لم تدرِ أن ذهابها ذاك سيكون سقوطاً حرَّاً يغيِّر مجرى حياتها، يفسد عليها عفتها، يَحرِمها من الواقع والحلم معاً، ويحمِلها لدفع الباب في أوجه الخطاب حتى لا يكتشفوا سرَّ ذلك السقوط!

 

 

- كان دائماً واثقاً مثابراً متابعاً... لم يكن يتخيل نفسه في الجامعة إلا استثناءً، قد وجد - حقيقةً - من تشاركه تلك السدَّة الاستثنائية العاجيَّة.. لم يعرف أبداً أن قرار الارتباط في هذه المرحلة بهذه الفتاة سيكون سقوطاً حراً.. يضيع به المستقبل كما ضاع به الماضي!

 

- تلك الجرعة التي أشاروا عليه بتعاطيها لينسى همَّه.. فأدمَن!

- وتلك اللطمة التي حطَّت ثقيلة على عين ابنته ساعة غضب.. ففقأتها!

- وتلك الكلمة التي قالها لزوجته ففارقها.. ولأمه فأغضبها..!

ما كانت إلا سقوطاً حراً غيَّر مجرى الحياة، وأفسد لذَّتها، وعبث بألوانها!!

 

من كان يظن بأن الراهب "برصيصا" الذي تعبَّد في صومعة له سبعين سنة، لم يعص الله فيها طرفة عين، وكان لا ينفتل عن صلاته إلا في كل عشرة أيام، ولا يفطر إلا في عشرة أيام مرة... من كان يظنّ بأن هذا سيسقط حين يفجُر ببنت الملك والتي استأمنه إخوتها عليها، ثم بعد السقوط يقتلها، ثم يخفيها، ثم ينكر، ثم يكذب، ثم يسجد لإبليس، ثم يُقتل!!

 

من كان يظن بأن إبليس.. ذلك الجانَّ المقرَّب في السماء، سيسقط.. في موقف، في كلمة، في عزٍّ بغير محله، فاستحق الطرد بعد القرب، واللعن بعد الرضا!

 

ثم بعده هبط آدم.. لأجل لقمة، بل لأجل ذواق {فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ} [الأعراف: 22]، وربما لأجل خاطرٍ لطيف ما أراد أن يكسرَه!


 

ثم استمرَّ في ذريته السقوط، وتتابع الهبوط، لكنه اختلف المهبط... اختلف القاع، كما اختلفت المنصة! فمرة يكون سقوطاً من سدة العفة إلى حضيض الرذيلة، ومرة يكون سقوطاً من عز الطاعة إلى ذلِّ المعصية، ومرة يكون سقوطاً من فسحة السعادة إلى ظلمة نفق الضيق والهمِّ، ولربما كان السقوط يوماً من عين صديق، أو قلب حبيب! ومهما كان السقوط مريراً.. فإن أعظمه وآلمه وأمرَّه.. هو السقوط من عين الله!

 

ربما.. هذا السقوط هو الذي كان يخشاه سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، فكان أكثر دعائه: «يا مقلب القلوب، ثبِّت قلبي على دينك» [الترمذي].

هذا السقوط الذي حذَّر الله منه المسلمين وكرهه لهم: {وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النحل: 94]

 

ربما.. هذا السقوط هو الذي دعا بعض علماء السلف أن يتناقلوا الأثر الوارد عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (مَن كانَ مُسْتَنًّا فَلْيَسْتَنَّ بمن قد ماتَ، فإنَّ الحيَّ لا تُؤمَنُ عليه الفِتْنَة) [ابن عبد البر].

 

ربما.. هذا السقوط هو الذي خافَه الإمام أحمد بن حنبل - رحمه الله - فيما روى ابنُه عبد الله، قال: حين احتضر أبي جعل يُكثِر أن يقول: (لا بعد، لا بعد)، فقلت: يا أبة، ما هذه اللفظة التي تلهج بها في هذه الساعة؟ فقال: (يا بني، إن إبليس واقف في زاوية البيت، وهو عاضٌّ على أُصبُعِه، وهو يقول: فتَّني يا أحمد؟ فأقول: لا بعد، لا بعد)، يعني: لا يفوته حتى تخرج نفسه من جسده على التوحيد. [البداية والنهاية]

 

حقيقة..

إن السقوط الحر من كلٍّ منا قريب، لا يفصلنا عنه غير قفزة، خطوة.. ربما تكون قراراً، ربما كلمة، ربما نظرة، وأحياناً نيَّة!

ربما سكوت في موقف كان ينبغي فيه الكلام، أو لين في ساعة لا ينفع فيها غير الشدة، أو شدة في موطن لا يصلح فيه غير الرفق!

نحن أولى بالخوف من ذاك السقوط، وكلما زاد عقل المرء زاد خوفه منه، والغافل لا يذكر أنه ارتفع حتى يخاف أن يسقط، ومن كان في الحضيض لم يخشَ السقوط يوماً!