مقدمة:
يقول الله تعالى: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ [الإسراء: 1]
اختلف الناس في تفاصيل كثيرة من الإسراء والمعراج، منهم من قال: إنه كان مناماً، ومنهم من قال: يقظة، ومنهم من قال: بجسده ﷺ وروحه، ومنهم من قال: بروحه، ومنهم من قال: إنه رأى ربه، ومنهم من قال خلاف ذلك، ومنهم من ركَّز على كونها لا دليل على توقيتها، ومنهم من ادعى خلافه، ومنهم من أنكر المعراج، ومنهم من أنكر الإسراء... وهذا التشغيب قد يعكر على المسلم فائدته، وليس تحرير الخلاف والرد هو ما يعني قاصد الاعتبار والعمل بالثابت من كتاب الله وسنة رسوله ﷺ من عامة المسلمين، ويبقى ذلك التحرير من اختصاص أهل التفسير والحديث والسيَر، وتبقى هذه المعجزة محطة لا بد من الوقوف عندها والتفكُّر فيها والتعلُّم منها... بغض النظر عن هذه الفرعيات.
ما قبل الإسراء والمعراج:
في السنة الحادية عشرة للبعثة أكمل النبي 10 سنين من الدعوة والتحمُّل والابتلاء فيها، تخللتها مرحلة الدعوة سراً، ودخول دار الأرقم بن أبي الأرقم، ثم أذى قريش وقتل ضعاف الصحابة أمثال ياسر وسمية وثويبة...، ثم حاولَت قريش التفاوض مع النبي ﷺ فلم تصل معه إلى بغيتها، فزادت وتيرة الأذى، فكانت الهجرة إلى الحبشة، ثم 3 سنين عجاف عانى فيها النبي ﷺ وأصحابه حصار شعب أبي طالب مع بني هاشم وبني عبد المطلب، تلاه وفاة خديجة أم العيال والداعم المادي والمعنوي للنبي ﷺ، وبعد 35 يوماً يموت أبو طالب عم النبي ﷺ، وهو الداعم الاجتماعي وصمام الأمان للنبي من المشركين، ليبدأ النبي بعده مرحلة جديدة من الإيذاء والتمادي.
حاول أبو لهب أن يلعب مع النبي ﷺ الدور نفسه، ويأخذ مكان أبي طالب معه، لكن سرعان ما تدخل أبو جهل ونبهه لخطر دعمه الرسالة، وذكّره بالفروق بينهم وبين محمد ودعوته، فتخلى عنه ومضى في صدّه.
بدأ النبي يفكر بالبحث عن أرض أخرى تحتضن الدعوة، فكَّر في الطائف التي تبعد 75 كم عن مكة، وهي مصيف كبرائهم، عليلة الهواء، مضى إليها في شوال بصحبة زيد بن حارثة t، والتقى فيها بسادتها (عبد ياليل ومسعود وحبيب بني عمرو)، عرض عليهم أن يؤمنوا به، ثم أن يتركوه يدعو أهل الطائف، ثم أن يسمحوا له أن يقيم في أرضهم، ثم أن يكتموا مجيئه عن قريش، ثم رجا أن يخرج من غير إيذائهم، فلم ينل منها واحدة!
خمس خطط بديلة جهزها النبي ﷺ لم تفلح معهم منها واحدة! فحرَّشوا صبيانهم وسفهاءهم عليه، فخرج ﷺ يدعو: «اللهم إليك أشكو ضعف قوّتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين، وأنت ربي، إلى مَن تكِلُني؛ إلى بعيدٍ يتجَهَّمُني، أم إلى عدوٍّ ملَّكتَه أمري؟ إن لم يكنْ بك غضبٌ عليَّ فلا أبالي، ولكنَّ عافيَتَك هي أوسعُ لي، أعوذُ بنورِ وجهِك الذي أشرقَتْ له الظلماتُ، وصلحَ عليه أمرُ الدنيا والآخرة، من أن تُنزِل بي غضبك أو يحلَّ عليَّ سخطُك، لك العُتبى حتى تَرضى، ولا حولَ ولا قوَّةَ إلا بك» [رواه الطبراني في الكبير، والبيهقي في الدلائل، بسندٍ ضعيف].
هكذا المؤمن إذا نزل به أمر أغمه أو همه فزع إلى ربه لا لسواه: ذكر الله إبراهيم: ﴿فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ ﴾ [الصافات: 98-101]، وذكر يعقوب إذ قال: ﴿إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ [يوسف: 86]، ﴿وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ﴾ [الأنبياء: 83-84].
لما دعا النبي ﷺ نزل جبريلُ ومعه ملكُ الجبال، يعرضان عليه أن يطبقا عليهم الأخشبين (الجبلين)، «فقال: يا محمدُ، إن الله قد سمع قولَ قومك لك، وما ردُّوا عليك، وقد بعَث الله إليك ملَك الجبال لتأمرَه بما شئت فيهم»، قال ﷺ: «فناداني ملك الجبال، فسلَّمَ عليَّ، ثم قال: يا محمد، إن شئتَ أن أطبِقَ عليهم الأخشبين!» فقال النبي ﷺ: «بلْ أرجو أن يُخرجَ اللهُ من أصلابهم من يعبدُ اللهَ وحدهُ لا يشركُ به شيئًا» [البخاري]، فصلى الله على من أرسله رحمة للعالمين، قال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء: 107]، لقد كان ﷺ رحمةً للصغير والكبير، والقريب والبعيد، والمخالف والموافق، لمن آمن به، ومن لم يؤمن به، وهذا من رحمته ﷺ بمن لم يؤمن به، أنه حرص على إيمانهم وسعادتهم؛ حتى قال له الله تعالى: ﴿لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾ [الشعراء: 3].
وبنحو ذلك روي أن النبي ﷺ لما كسِرت رباعيته وشجّ وجهه يوم أحُد شقّ ذلك على أصحابه شقًّا شديدًا وقالوا: لو دعوتَ عليهم! فقال: «إني لم أُبعَث لعَّانًا، وإنما بُعثتُ رحمةً» [مسلم، وينظر: الشفا للقاضي عياض].
المسلم يرحم ولا ينقم، يحرص على نجاة غيره لا على اتهامه وإقصائه والنيل منه! وإذا تنكر له أهل الدنيا فلا يبالي؛ ما كانت نيته صالحة أما إن فسدت النية فالخسارة عظيمة!
ثم بعد أن جاءه ﷺ ملك الجبال ليُطبق عليهم الجبال بعد أن كذَّبوه وعذَّبوه؛ ولم يرضَ النبيُّ ﷺ ذلك، لجأ ﷺ إلى بستان عتبة وشيبة ابنا ربيعة، والتقى عداس النينوي، ولم يمنعه هذا الحال - بعد أن آذاه أهل الطائف الذين كذبوه وضربوه حتى أسالوا دمه.. من اقتناص فرصة دعوة عداس النينوي؛ حين التقى به على عجالة يقدم له قطفاً من عنب، حتى وضعه بين يدي رسول الله ﷺ، ثم قال له: كل، فلما وضع رسول الله ﷺ فيه يده، قال: «باسم الله»، ثم أكل، فنظر عداس في وجهه، ثم قال: والله إن هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلاد! فقال له رسول الله ﷺ: «ومن أهل أي البلاد أنت يا عداس، وما دينك؟» قال: نصراني، وأنا رجل من أهل نينوى، فقال رسول الله ﷺ: «من قرية الرجل الصالح يونس بن متى؟»، فقال له عداس: وما يدريك ما يونس بن متى؟ فقال رسول الله ﷺ ذاك أخي، كان نبيًّا وأنا نبي، فأكبَّ عداس على رسول الله ﷺ يقبِّل رأسه ويديه وقدميه.
قال: يقول ابنا ربيعة أحدهما لصاحبه: أما غلامك فقد أفسده عليك! فلما جاءهما عداس قالا له: ويلك يا عداس! ما لك تقبِّل رأس هذا الرجل ويديه وقدميه؟! قال: يا سيدي، ما في الأرض شيء خير من هذا، لقد أخبرني بأمر ما يعلمه إلا نبي؛ قالا له: ويحك يا عداس، لا يصرفنك عن دينك، فإن دينك خير من دينه. [سيرة ابن هشام].
من صفت فطرته، وسلمَت نفسه من الهوى، تكفيه إشارة الحق حتى يشرق بريقها في روحه!
ثم رجع ﷺ مكة ونزل في جوار المطعم بن عدي.
الإسراء والمعراج:
بعد ذلك الحدث كانت ليلة الإسراء والمعراج، قال رسول الله ﷺ: «فرج عن سقف بيتي وأنا بمكة، فنزل جبريل، ففرج صدري، ثم غسله بماء زمزم، ثم جاء بطست من ذهب ممتلئ حكمة وإيمانًا فأفرغه في صدري، ثم أطبقه». [البخاري]
الدرس الأول: هو أن المنحة تأتي بعد المحنة، والعطاء يأتي بعد الابتلاء، ولعل في الانقطاع عما ألفه الإنسان من سند ومتكأ، والخيبة بما أمله من سبب ومسبب، يجعله يتبرأ من حوله وقوته، ويلتجئ بكليته لحول الله وقوته، فيجيب الله المضطر إذا دعاه ويكشف عنه السوء.
ولعل ما حدث له ﷺ من انقطاع الرجاء في إيمان قريش في ظرفها الحالي، وفقدِ السند الداخلي - خديجة - والخارجي - أبي طالب - ، وعدم استجابة أهل الطائف لدعوته مع جميع الخطط التي أعدَّها لدعوتهم... ملأ صدره ﷺ بالحسرة عليهم، ووجد الرسول رسالته لا تسمِع الصمّ، وبدأ يفكر في طريقة تفتح هذا الأفق المسدود، فجاءه جبريل وغسل ما في صدره، وملأه حكمة وإيماناً، وهو أهم ما يحتاجه في الوقت الحالي، زاداً في رحلة الأرض، ورحلة السماء.
قال رسول الله ﷺ: «أُتِيت بالبراق، وهو دابة أبيض طويل فوق الحمار ودون البغل، يضع حافره عند منتهى طرفه» [مسلم]. وفي رواية الترمذي وأحمد عن أنس t: «أن النبي ﷺ أتي بالبراق ليلة أسري به مسرَجًا ملجَمًا ليركبه، فاستصعَب عليه، فقال له جبريل: ما يحملك على هذا؟ فوالله ما ركبك أحد قط أكرم على الله منه! فارفضَّ عرقًا» [الترمذي].
قال رسول الله ﷺ: «فركبته حتى أتيتُ بيت المقدس»، أول القبلتين، وثاني المسجدين، وثالث الحرمين الشريفين، وفي مسيره هذا إشارة إلى رمزية هذا البيت ومحوريته، «قال: فربطتُه بالحلقة التي يربط به الأنبياء، قال: ثم دخلت المسجد فصليت فيه ركعتين، ثم خرجت، فجاءني جبريل عليه السلام بإناء من خمر وإناء من لبن، فاخترتُ اللبن، فقال جبريل ﷺ: اخترتَ الفطرة، ثم عرج بنا إلى السماء» [مسلم].
يتضح من هذا الاختبار بين اللبن والخمر، ثم اعتبار اللبن دليلاً على الفطرة؛ أن هذه الرحلة ستكون مليئة بالمعاني الرمزية..
قال ﷺ: «ثم أخذ [أي: جبريل] بيدي فعرج بي إلى السماء الدنيا، فلما جئت إلى السماء الدنيا قال جبريل لخازن السماء: افتح، قال: من هذا؟ قال: هذا جبريل، قال: هل معك أحد؟ قال: نعم، معي محمد ﷺ، فقال: أرسل إليه؟ قال: نعم، فلما فتح علونا السماء الدنيا...» [البخاري].
قال ﷺ: «فلما فتح علونا السماء الدنيا، فإذا رجل قاعد على يمينه أسودة، وعلى يساره أسودة، إذا نظر قِبل يمينه ضحك، وإذا نظر قِبل يساره بكى، فقال: مرحبا بالنبي الصالح والابن الصالح، قلت لجبريل: من هذا؟ قال: هذا آدم، وهذه الأسودة عن يمينه وشماله نسم بنيه، فأهل اليمين منهم أهل الجنة، والأسودة التي عن شماله أهل النار، فإذا نظر عن يمينه ضحك، وإذا نظر قبل شماله بكى.
حتى عرج بي إلى السماء الثانية، فقال لخازنها: افتح، فقال له خازنها مثل ما قال الأول ففتح» [البخاري]. وفي رواية مسلم: «فإذا أنا بابنَي الخالة عيسى ابن مريم، ويحيى بن زكرياء صلوات الله عليهما، فرحَّبا ودعوا لي بخير.
ثم عُرج بي إلى السماء الثالثة، فاستفتح جبريل، فقيل: من أنت؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد ﷺ، قيل: وقد بعث إليه؟ قال: قد بعث إليه، ففتح لنا، فإذا أنا بيوسف ﷺ، إذا هو قد أعطِي شطر الحُسن، فرحَّب ودعا لي بخير.
ثم عُرج بنا إلى السماء الرابعة، فاستفتح جبريل عليه السلام، قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد ﷺ، قال: وقد بعث إليه؟ قال: قد بعث إليه، ففتح لنا، فإذا أنا بإدريس، فرحَّب ودعا لي بخير، قال الله عز وجل: ﴿وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا﴾ [مريم: 57].
ثم عرج بنا إلى السماء الخامسة، فاستفتح جبريل، قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد ﷺ، قيل: وقد بعث إليه؟ قال: قد بعث إليه، ففتح لنا، فإذا أنا بهارون ﷺ، فرحب ودعا لي بخير.
ثم عرج بنا إلى السماء السادسة، فاستفتح جبريل عليه السلام، قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد ﷺ، قيل: وقد بعث إليه؟ قال: قد بعث إليه، ففتح لنا، فإذا أنا بموسى ﷺ، فرحب ودعا لي بخير.
ثم عرج بنا إلى السماء السابعة، فاستفتح جبريل، فقيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد ﷺ، قيل: وقد بعث إليه؟ قال: قد بعث إليه، ففتح لنا، فإذا أنا بإبراهيم ﷺ مسندًا ظهره إلى البيت المعمور، وإذا هو يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه» [مسلم].
«ثم ذهب بي إلى السدرة المنتهى، وإذا ورقها كآذان الفيلة، وإذا ثمرها كالقلال، قال: فلما غشيها من أمر الله ما غشي تغيرَت، فما أحد من خلق الله يستطيع أن ينعتَها من حسنها، فأوحى الله إليَّ ما أوحى» [مسلم].
قال النبي ﷺ: «ثم عرج بي حتى ظهرت لمستوى أسمع فيه صريف الأقلام. قال: ففرض الله على أمتي خمسين صلاة، فرجعت بذلك، حتى مررتُ على موسى، فقال: ما فرض الله لك على أمتك؟ قلت: فرض خمسين صلاة، قال: فارجع إلى ربك، فإن أمتك لا تطيق ذلك!» [البخاري]، وفي رواية: «يا محمد، والله لقد راودت بني إسرائيل قومي على أدنى من هذا فضعُفوا فتركوه، فأمتك أضعف أجسادًا وقلوبًا وأبدانًا وأبصارًا وأسماعًا، فارجع فليخفِّف عنك ربُّك، كل ذلك يلتفت النبي ﷺ إلى جبريل ليشير عليه، ولا يكرَه ذلك جبريل» [البخاري].
وكأن لقاء النبي ﷺ بإخوته الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - في بيت المقدس، ثم في السماوات، يربط حِلَق السلسلة؛ أولاها بأخراها، وأعلاها بأدناها (ولا نفرق بين أحد من رسله)، ويسلِّي النبي ﷺ وهو في حاله الأولى بذكرى إخوانه المرسلين الذين لقوا من أقوامهم مثل ما لقي من قومه، وأكثر، ثم يفتح له باب خبرتهم بالناس، وفرحهم لأهل الجنة منهم، وحزنهم على من سواهم، وليشهدوا تكليف الأمة الآخرة بأعظم شعائرها (الصلاة)، ويتدخل موسى غيوراً ناصحًا بما يخفف الفريضة ويضمن الامتثال.
قال النبي ﷺ: «فراجعني فوضع شطرها، فرجعت إلى موسى، قلت: وضع شطرها، فقال: راجع ربك، فإن أمتك لا تطيق! فراجعت فوضع شطرها، فرجعت إليه فقال: ارجع إلى ربك، فإن أمتك لا تطيق ذلك! فراجعته فقال الجبار: يا محمد، قال: لبيك وسعديك، قال: هي خمس وهي خمسون، لا يبدَّل القول لدي» [البخاري]. «يا محمد، إنهنَّ خمس صلوات كل يوم وليلة، لكل صلاة عشر، فذلك خمسون صلاة، ومن هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة، فإن عملها كتبت له عشرًا. ومن هم بسيئة فلم يعملها لم تكتب شيئًا، فإن عملها كتبت سيئة واحدة. قال: فنزلت حتى انتهيت إلى موسى ﷺ فأخبرته، فقال: ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف، فقال رسول الله ﷺ: فقلت: قد رجعت إلى ربي حتى استحييت منه!» [مسلم].
تخفيف المهمة في الدنيا ينبني عليه تقليص المزايا وإنقاص الأجور، لكن معدلات الكريم أعظم من هذا المنطق، وأكبر من هذه الأرقام!
ثم رأى النبي ﷺ أحوالاً لأهل الجنة وأهل النار، قال النبي ﷺ: «ثم أدخِلت الجنة، فإذا فيها حبايل اللؤلؤ، وإذا ترابها المسك» [البخاري]. وقال النبي ﷺ: «لما عرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون بها وجوههم وصدورهم، فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال : هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس، ويقعون في أعراضهم» [أبو داود].
ثم بعد ذلك قال النبي ﷺ: «قال: فاهبط باسم الله، قال: واستيقظ وهو في مسجد الحرام» [البخاري].
ثم رجع رسول الله ﷺ إلى مكة فأخبر أنه أسري به فافتتن ناس كثير كانوا قد صلوا معه، فتجهز ناس من قريش إلى أبي بكر رضي الله عنه فقالوا: هل لك في صاحبك يزعم أنه جاء إلى بيت المقدس ثم رجع إلى مكة في ليلة واحدة! فقال أبو بكر: أوَقال ذلك؟ قالوا: نعم، قال: فأنا أشهد لئن كان قال ذلك لقد صدق! قالوا: فتصدقه بأن يأتي الشام في ليلة واحدة ثم يرجع إلى مكة قبل أن يصبح؟! قال: نعم، أنا أصدِّقه بأبعد من ذلك، أصدِّقه بخبر السماء، قال أبو سلمة: فبها سمي أبو بكر الصديق. [ابن كثير]
حين يصفو الإيمان وتتضح الرؤى وتسمو الروح وينأى الهوى؛ يكون التفاعل مع الأحداث والوقائع عظيمًا جداً، بقدر ما يحمل من البساطة والوضوح؛ بقدر ما يتمتع بالعمق والرسوخ!
راح أهل مكة يسألون النبي ﷺ سؤال الفاحص المختبر، يقول النبي ﷺ: «لما كذبني قريش، قمت في الحجر، فجلى الله لي بيت المقدس، فطفقت أخبرهم عن آياته، وأنا أنظر إليه» [البخاري].
الخاتمة:
بعض محطات الحياة تكون قاسية لدرجة أننا نحتاج بعدها لشيء مَّا يُخرجنا من الجو.. يخفف الأسى ويجدد الطاقة..
أحياناً.. التراكم الحياتي هو الذي يسبب ذلك الاحتياج إلى التجديد والتخفيف..
تلك الفسحة التي تكون ترويحاً لما سبقها.. تكون - كذلك - وقوداً لإنجازٍ بعدها.. لرفع أحمالٍ أثقل، وإنهاء ملفَّات عالقة..
والغريب! مع أنها رحلةٌ للتجديد.. لكننا نرجع بعدها متعَبين جداً.. نحتاج للراحة!
كان النبي ﷺ يحتاج إلى رحلة الإسراء والمعراج، ولكنَّه عاد منها مُثقَلاً مكلّفاً، وأصبح يومها متعباً حزيناً..
فتَح بعدها جبهات جديدة، وانتقل إلى محطات دعوية جديدة، واستعد لتلقِّي الرسالة بكثافة أكبر.. (49 سورة قبل الإسراء، معظمها من القصار، مع فترات انقطاع للوحي، بعدها 37 في 3 سنوات معظمها من الطوال).