كان الشعراء قديماً يفتخرون بأنفسهم، بأقوامهم، بمواطنهم، بمآثرهم... كان ذلك يلامس شيئاً فطرياً فيهم، وإن كان يصطدم عند الممارسة - أحياناً - بما يخالف المروءة، أو تعافه النفوس..
تضخُّم الأنا وتعظيم الذات مؤشِّر سلبي منفِّر، وعقدة نفسية قد تُترجَم بالتسلط، أو الديكتاتورية، أو الاحتواء السلبي، أو النرجسيَّة التي تفضح الإفراط في عشق الذات، وتشير بعض الدراسات (عام 2013) أن النرجسية من أهم خمسة اضطرابات تصيب الإنسان.
لكن.. ليس التوافق النفسي والقبول الذاتي والتوازن الواعي في محبة النفس وتقدير الذات والنأي بها عما لا يليق بها.. هذا ليس مذموماً - دائماً - كالإفراط في تعظيم الذات!
أذكر أنَّ من أبجديات ما تعلَّمناه ونشأنا عليه - للأسف - أن نخاف من أنفسنا، أن نُذلَّها تأديباً، أن نُخرسَها تواضعاً، أن نردِّد الحديث الذي لا أصل له([1]): (أعدى عدويك نفسُك التي بين جنبيك)، نفسك الأمارة بالسوء، نفسك التي تنازع الله أمره، وتنافسه في ملكه...
لكن.. هذا تطرف لا يَقلُّ خطراً عن الكِبر، أدى إلى تحطيم الشخصية أمام الذات، وأمام الناس، وقد آن الأوان أن نتوازن، أن ننظر إلى النفس.. إلى الأنا.. إلى الذات.. من زاوية مختلفة!
قد يهمك: (6 أشياء هي أنت).
أنا لا أزكي نفسي {فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ} [النجم: 32]، ولا أفخر بأنَايَ على غيري «ولا فخر»([2])، وإني أعوذ بالله أن أكون في نفسي عظيماً وأنا عند الله صغير..
لكني أعتزّ بنوعي الذي كوَّن الله طينته بيده، ونفخ فيه من روحه..
بكرامتي على ربي {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} [الإسراء: 70].
بنفسي التي شرَّفني الله تعالى أن تكون بيده «والذي نفسي بيده»([3]).
بسيادتي لهذا الكون المخلوق لأجلي: {خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة: 29]، و المسخَّر لي: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} [الجاثية: 13].
وتزعم أنك جرمٌ صغير ... وفيك انطوى العالم الأكبر؟!
[علي بن أبي طالب]
ربما تقول لي: ألم يستعذ النبي صلى الله عليه وسلم من نفسه؟ أقول لك: لا، إنما استعاذ عليه الصلاة والسلام من شرِّ نفسه، ومن شرِّ لسانه، ومن شرِّ خلقِ الله أن يصيبَه شرُّهم...
بل.. أكرمَ النبي صلى الله عليه وسلم نفسَ المؤمن أن تُنسب إليها صفة الخبث حين قال: «لا يقولن أحدكم: خبثت نفسي، ولكن ليقل: لقست نفسي»([4])، واللقس: الغثيان([5])، وإنما كره النبي صلى الله عليه وسلم لفظ الخبث لقبحِه، ولئلا يَنسب المسلمُ الخبثَ إلى نفسه، كذا حقَّقه ابن الأثير وغيره.
نفسي.. آمَن الخلق على أسراري، أحدِّثها وتحدِّثني، وأخشى عليها وتخشى عليَّ، هي الحاضرة بقوة في اللحظات الحرجة في الدنيا ويوم الفزع الأكبر {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس: 34 - 37]، لا يختلف في ذلك نبيٌّ ولا وليّ، كلهم يقول: «نفسي، نفسي، نفسي!»([6])، إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
النفس.. هي شاهد العدل بين العبد وربه حين يقول له: «يا رب، ألم تُجرني من الظلم ؟ يقول: بلى، فيقول: فإني لا أجيز اليوم على نفسي شاهداً إلا منِّي، فيقول الله: كفى بنفسك اليوم عليك شهيداً»([7]).
قد يهمك: (نفسك.. هل تحبها؟)
ظلموا الجيل يوم قالوا له: لا تقل "أنا"، فإنها لفظ إبليس: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ} [الأعراف: 12]، ولفظ نمروذ: {قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} [البقرة: 258]، فمحوا بذلك شخصه، وجابهوا فطرته، وتركوه يلهث ما بقي لتحقيق ذاته..
لم يعلّموه من "أنا" التي قالها خير ولدَي آدم: {مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ} [المائدة: 28].
ولا "أنا" التي قالها إبراهيم: {وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام: 79].
ولا "أنا" التي قالها نوح: {وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا} [هود: 29].
ولا "أنا" التي قالها يوسف: {أَنَا أَخُوكَ فَلَا تَبْتَئِسْ} [يوسف: 69]، {وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} [يوسف: 72].
ولا "أنا" التي قالتها التائبة: {أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ} [يوسف: 51].
ولا "أنا" التي قالها محمد: {وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ} [الحجر: 89]...
مقتصرين في كل ذلك على "أنا" التي قالها إبليس، و"أنا" التي قالها النمروذ.
"أنا" (ليست دائماً سلبية، ففي القرآن الكريم جاءت حوالي 66 مرة، غالبها في سياق إيجابي)([8])، فتعزيزها يعني الإنجاز، يعني المضي قدماً في الحياة، يعني الترفُّع عن السفاسف والتطلع إلى المعالي.. ببساطة.. يعني الحياة!
عندما يفقد المرء الإحساس بذاته وأهميَّته لن يكون منجزاً ولا ناجحاً، ولن يكون من الأحياء
[د. سلمان العودة]
ثم يقولون لك: استعِذ من نفسك كل ما ذكرتَها وقل: (أعوذ بالله من كلمة "أنا")! اعترف بأنك نكرة - تواضعاً -، وصعِّر خدَّك للناس - خلُقاً -!
لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يستعذ من نفسه عند الـ "أنا"، إنما ضبط اللفظ وأزال اللَّبس، لم يستعذ حين قال: «أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر، وبيدي لواء الحمد ولا فخر، وما من نبي يومئذ - آدم فمن سواه - إلا تحتَ لوائي، وأنا أوَّل من تنشقّ عنه الأرض، ولا فخر»([9]).
أنا من ليس بيني وبين الله أحد، أدعوه متى شئت، وكيف شئت، وبما شئت، هو شاء لي ذلك وأحلَّني هذا المقام!
أنا الذي حفظني الله، وصان دمي وعرضي ومالي، وحفظ نفسي، وجعل الاعتداء عليها كبيرة، وقتلَها ذنباً يخلّد صاحبَه في النار {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء: 93].
أنا ابن نبيٍّ - لا كذِب -، خلق الله أبي بيده، ونفخ فيه من روحه، وعلَّمه، وكلَّمه، وأسجَد له الملائكة، وأسكنني في ظهره، وخاطَبني وأخذ عليَّ العهد: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف: 172]، ثم أدخلنا الجنة، ثم أهبطَنا منها تائبين مكرَّمين مفضَّلين {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} [الإسراء: 70].
أنا الذي كرَّمني ربي، وسخَّر لي الكائنات تسخيرَ تعريف وتسخير تشريف وتسخير تكليف، وأعطاني حرية وصلاحيات ما أعطاها لغيري، أعطاني الحق أن أكون عنده أفضل من بعض ملائكته، وأعطاني حرية المعتقد والقول والفعل، ولم يسمح لأحد أن يصادرَها، لا حاكم، ولا والد، ولا حتى نبيّ {لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} [الغاشية: 22]، لكنه أخبرَني بأنني محاسَب على قراراتي عندما أرجع إليه.
أنا الذي اختارني من بين ثلاث مئة مليون حوين منوي لا يكوِّنون مجتمعين سنتيمترًا مكعبًا! وزودني بخمسة مليارات معلومة وراثية، ثم نقلني بين أبويَّ، وامتنَّ عليَّ بالإيجاد، والإمداد، ثم الإسعاد بالهدى والرشاد!
أنا السيد الأوَّل في عين زوجتي وولدي، أنا مرجعهم وقدوتهم ومحرك بوصلتهم.. وأنا أكبر همِّ والديَّ، وظِفري عندهم لا يساوي كنوز الدنيا!
أنا قِبلة قلوبِ أحبابي، كما هم قبلة قلبي، آنَس بهم ويأنسون بي، آلَف بهم ويألَفون بي، «ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف»([10]).
أنا الذي أحبُّ اسمي، وأراه جملة تامة غير منقوصة، ولا محتاجة إلى تكميل بلقبٍ أو كنية، وأطرب لسماع حروفه حين يجري على ألسنة من أحبهم وأحترمهم، خاصةً إذا كان في سياق الثناء والتقدير والتفوّق، الله جبَلني على ذلك، على التمتع بمتابعة الأثر الإيجابي الناتج عني، وذلك لأمضي في تحصيل مزيد من الإنجازات والعطاءات التي تحفِر أثرَ خطوي في الأرض، دون إسراف في قراءة التفاصيل التي تُشعرني بأني مركز العالم.
أنا الذي جبلني الله على حبِّ الخير لنفسي، وأمرني أن أحبَّ مثله للناس: «لا يؤمن أحدكم حتى يحبَّ لأخيه ما يحب لنفسه»([11])، وأوصاني رسولي عليه الصلاة والسلام بالحرص على ذلك فقال لي: «احرص على ما ينفعك»([12])، وعلَّمني الدعاء لنفسي: «اللهم آت نفسي تقواها، وزكِّها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها»([13])، وأن أستودعه إياها إذا أويت إلى فراشي: «اللهم أسلمتُ نفسي إليك»([14])، وأن أستعيذ به من «أن أقترف على نفسي سوءاً»([15])، وأن أستغفر إن ظلمتُها: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي} [القصص: 16].
من يُدانيني مقاماً ... إنني نبضُ الحياة
واثقاً أمضي هُماماً ... عاقداً عزمَ الثبات
أرتقي قممَ المعالي ... طامحاً للشَّامخات
أتَّقي سوءَ الفعال ... ساعياً للمَكْرُمات
هكذا أمضي شبابي ... همَّةٌ، هدفٌ، وذات
ربما تقول لي: ألم يكره النبي صلى الله عليه وسلم الـ "أنا" في حديث جابر: (أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمرِ دَينٍ كان على أبي، فدقَقْت الباب، فقال: «من ذا؟» فقلتُ: أنا، فخرج وهو يقول: «أنا، أنا؟» كأنه يكرهه)([16]).
أقول: السياق هنا ليس لإنكار اللفظ، وإنما لإنكار الإجابة المعتادة التي لا تقدِّم جواباً كافياً للسائل، فيعتمد المستأذن في هذا الجواب على شهرة صوته ومعرفة نبرته لدى السائل، ولعل هذا فيه نوع من الترفُّع والإحراج، وقد حكى ابن الجوزي أن (أنا) هنا فيها نوعاً من الكبر، وكأن قائلها يقول: أنا الذي لا أحتاج إلى ذكر اسمي ولا نسبي! وهذا وإن كان غير وارد في حقِّ جابر رضي الله عنه، إلا أنه لا يمنع من تعليمه.
ختاماً: استفد من آراء من حولك عنك، حتى انطباعاتهم وأحكامهم، لكن لا تجعلها حاكمة لك تأسرك وتقيدك، لا تجعلها موردك الوحيد والثابت.. ففي داخلك شخص هو أقرب إليك وأعرَف بك وأكثر تقديراً لظروفك وقواعد قراراتك..
يقول الكاتب الأمريكي "وندل هولمز" (إن الإنسان -كل إنسان بلا استثناء- إنما هو ثلاثة أشخاص في صورة واحدة، الإنسان كما خلقه الله، والإنسان كما يراه الناس، والإنسان كما يرى هو نفسه)([17]).
أظن بأن الجانب الذي يعنيك هو: كيف ترى نفسك؟ والله يعلم الأول، ولا حكم لك على الثاني.
([1]) كشف الخفاء [1/ 143].
([2]) أخرجه الترمذي.
([3]) متفق عليه.
([4]) متفق عليه.
([5]) تاج العروس [16/ 483].
([6]) متفق عليه.
([7]) أخرجه مسلم.
([8]) أنا وأخواتها
([9]) أخرجه الترمذي.
([10]) أخرجه أحمد، والحاكم.
([11]) متفق عليه.
([12]) أخرجه مسلم.
([13]) أخرجه مسلم.
([14]) متفق عليه.
([15]) أخرجه الترمذي.
([16]) متفق عليه
([17]) أنا - لعباس العقاد.