(اقرأ) أول قطرات غيثِ السماء؛ نزلَت مبشرةً لأمة ظمآى جهلاً وجاهلية، هلكى بثارات وطبقية، حفَّتها من حولها أمم فاقتها علماً وحضارة وقوة ومالاً.

نبتت بذرة (اقرأ)، في تربة العصبية والتخلف، ترعاها يد النبوة، يرعاها {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ} [الفتح: 29]، يسقيها ماء الدأب والمثابرة، ويُشرق عليها نور الطموح والإيمان، حتى أخرجَت شطأها، فآزرها، فاستغلظ على سوقها، لتغدو بعد مدة - ليست بالطويلة في المنظار التاريخي - راسخةَ الجذر، شامخةَ القدْرِ، باسقةَ الرأس، عظيمة الثمر، قلبت تربتها تسامحاً وعلماً وتقدماً؛ حتى صارت المكتبات الإسلامية - كمكتبات بغداد، وقرطبة، وإشبيلية، وغرناطة، والقاهرة، ودمشق، وطرابلس، والمدينة المنورة، والقدس... - من أعظم مكتبات العالم، بل أعظمها على الإطلاق في تاريخ الازدهار الإسلامي، ولقرون طويلة، تحكي تاريخاً عريقاً من الثقافة والحضارة والعلم.

 

 

واليوم يقال: (أمة اقرأ لا تقرأ!)، ولربما هذه العبارة ليست صحيحة على إطلاقها، فشبابها يقرؤون، بل ويقرؤون كثيراً في مواقع التواصل الاجتماعي، ووسائل التواصل، يقرؤون الجرائد، والروايات، وحتى المقالات، ولربما الصحيح أنهم لا يقرؤون القراءة المثمرة المنهجيَّة النافعة، التي تتكامل في خطىً بناءة وفق رؤية بعيدة، إنما تقع قراءتهم مبعثرة في خطوات عشوائية ينسخُ بعضها بعضاً، ويُنسي آخرُها أولَها!

والنسبة الكبيرة منهم ( 70%  تقريباً) يقرؤون للتسلية، ونسبة أقل تقرأ للاطلاع (كقراء الجرائد والأخبار)، ونسبة أقل تقرأ لتحسين المحاكمات العقلية، وتنمية ملكة التفكير، وتبقى النسبة الأقل والأسمى والأرقى تلك التي تقرأ من أجل الإضافة إلى المعرفة.

 

هذه النِّسب تصف من يقرأ، وهناك سواد عظيم لا يعير القراءة أية أهمية، ويتابع الشكوى من غلاء الكتب، وعدم توفر الوقت أو الرغبة أو المزاج المناسب للقراءة، وهذا عائد إلى ظروف قسرية أو اختيارية، أو إلى سوء تنظيم الإنفاق والوقت.

 

(إن تخصيص 2 % من مصروف أية أسرة كافٍ لتأمين عدد من الكتب متوسطة الحجم شهرياً، وتأسيس مكتبة قيِّمة في المنزل على المدى البعيد)

[القراءة المثمرة - د. عبد الكريم بكار]

 

فرمزية الرصيد المخصص للتعلُّم أحد ما يدفع الناس عن القراءة، فالأسرة كلما ارتقت ارتفع هذا الرصيد الذي تخصصه من ميزانيتها للتعلُّم، ومع انتشار الفقر في البلاد العربية والإسلامية يزيد هذا المبرر قوة، فاليوم.. عندما تضع الكتاب مع اللقمة في ميزان واحد فلا تنتظر من الكتاب أن يَثبُتَ في هذه الموازنة اللئيمة!

 

لكن التقدم التكنولوجي أتاح للإنسان خيارات أخرى، تتيح له الاطلاع على العلوم والمواكبة في المعارف بشكل شبه مجاني، وذلك عن طريق النشر الإلكتروني والكتاب الرقمي (eBooks) أو (digital Books)، غير أنَّ هذا البديل سرعان ما تحول إلى منافس لدى الشريحة التي أتيح لها الخياران معاً، وهذا ما نراه يخلق في سوق الكتاب سؤالاً يتبادر إلى الذهن قبل قرار شراء أي كتاب: هل أجده منشوراً على الشبكة العنكبوتية؟

 

 

إن بروز الكتاب الإلكتروني في سوق القراءة قسَم المهتمين بالكتاب إلى قسمين:

منهم من رأى بأن الكتاب الإلكتروني سيُلغي وجود الكتاب الورقي، وسينتهي عصره إلى غير رجعة؛ ليحل مكانه الكتاب الرقمي - وهذا الرأي يختلف باختلاف الجيل الذي تعوَّد على التكنولوجيا أو لا -.

ومنهم من رأى العلاقة بين كلا الكتابين علاقةَ تكامُل؛ لا علاقةَ تنافُس، وأنَّ الكتاب الإلكتروني عزَّز وجود الكتاب الورقي، وأتاحه لفئة جديدة، وعمل على زيادة روَّاد سوق الكتاب بحثاً عنه، وسيتعايش الكتابان مستقبلاً تعايش الراديو مع التلفاز، وتعايش التلفاز مع يوتيوب، بدليل أن الكتاب الورقي ما يزال حتى الساعة مفضَّلاً عند الكثير من القراء، ويتربع على رفوف المعارض وأسواق الكتب في مشارق الأرض ومغاربها.

 

وفعلاً، إننا نفضِّل اقتناء النسخة الورقية من الكتاب - أحياناً - مع توفر نسخته الإلكترونية على الشبكة العنكبوتية، ذلك لأنه يقدم لنا مزايا يعجز عنها الكتاب الإلكتروني حتى الآن، من ذلك:

 

- أن الكتاب الورقي يمكن أن يرقى لبناء علاقة وثيقة بينه وبين القارئ، ليصير الصديق الوفي والممتع، المريح للعين، الذي تستطيع أن تبني معه علاقة طيبة ورائحة أفكاره تفوح مع رائحة ورقه.

 

- في قراءة الكتاب الورقي متعة قد لا يشعر بها من يقرأ الكتاب الإلكتروني، فهو أكثر راحة بشكل عام من الكتاب الإلكتروني، في حين تسبِّب القراءة من جهاز إلكتروني لساعات طويلة إجهاداً للعين، وتهدِّد النفس بتعزيز الإدمان الإلكتروني، لكنها مع ذلك السبيل الوحيد لذوي الاحتياجات الخاصة من ضعاف البصر والسمع ومن لا يستطيع الانتقال إلى المكتبة.

 

- الكتاب الورقي يقبل منك أن تصحِّح فيه، وتهمِّش عليه، وتظلل أهمَّ أفكاره، ولا يتوقف على توفّر الكهرباء أو الأجهزة، أو الاتصال بالإنترنت، ولا يخذلك برسالة: (The Battery is low).

 

 

لكنه بالمقابل:

- على مستوى البيئة: يستنزف الأشجار لصناعة الورق، ويحتاج للضوء الخارجي عند القراءة، في حين يعتمد الكتاب الإلكتروني كلياً على البيئة الرقمية، ولا يستهلك أي مواد عضوية خلال إنتاجه وتسويقه وقراءته.

 

- وعلى مستوى الأمة: فقد أثَّر حرق المكتبات تاريخياً على تراثها، وأضاع جهوداً جبارة سُخِّرت لنهضتها، وأدى إلى خسارة جزء كبير من رصيدها العلمي الذي كان وقوداً لها في مسيرة التقدَّم والمنافسة.

 

- وعلى المستوى الشخصي: يُعَدّ افتقاد المكتبة الورقية عند البعد عنها -خاصة لمن هاجر أو سافر بعيداً عن مكتبته- خسارة فادحة تدعوه للأسف والحسرة، ويكون الأسف نسبياً مع كل نسخة تزهقها الإعارة.

 

أما الكتاب الإلكتروني فله أيضاً ميزاته التي لا يمكن أن ننقصها حقها..

فهو قليل التكلفة في الإنتاج والشراء، مما ييسر أن يكون في متناول ملايين الناس بأسهل الطرق، ولذلك هو الأكثر انتشاراً اليوم، ويبدو أنه - ليُسر إنشاء نسخه الاحتياطية المضغوطة في أماكن متعددة -  قادر على العيش والتطور والبقاء مستقبلاً أكثر من الكتاب الورقي الذي يهترئ ويحترق وتصيبه الرطوبة فيتلف كليَّاً أو جزئياً!


 

والكتاب الإلكتروني يتيح لك ميزة الإعارة بأمان؛ في حين تشكل إعارة الكتاب الورقي تهديداً لسلامة وجوده وبقائه بين يديك!

 

كما أن الكتاب الإلكتروني منعدم الوزن، لطيف النقل، سهل الوصول حول العالم، يسير التخزين، وليس كالكتاب الورقي الذي تعاني للوصول إليه إن كان في بلد آخر، وأذكر مرة أني اضطررت لشراء كتاب من دولة أخرى فكلفني شراؤه ونقله عبر DHL واستلامه قرابة 16 ضعفاً من ثمنه!

 

والكتاب الإلكتروني تسهل قراءته من أجهزتك الخاصة (لابتوب - جوال - كمبيوتر - آي باد...)، ويتيح لك ميزة البحث والنقل والنسخ - مع افتقاره لتوفر البرامج على جهازك -، وقد صارت برامج القراءة المتطورة اليوم أكثر احترافية ومرونة؛ بحيث يمكنك من خلالها التهميش والتعليق، وكتابة الحواشي، والتظليل...، وكذلك التحكم بحجم الخط، وتغيير الصفحة طبقًا لحجم شاشة العرض، وضبط القراءة الليلية، وعرض ملفَّات الميديا (صوت، صور، فيديو) التي تم تضمينها خلال الكتاب، لكن ذلك - بالمقابل - يتيح معه قابلية التشتت بالدخول للألعاب والاستمرار في التنقل بين الفيديوهات وصولاً إلى وسائل التواصل الاجتماعي، ويشكل وجوده عند زمرة أخرى الخط الموازي لتطبيقات التواصل الاجتماعي، فيستعين بالكتاب الإلكتروني الموجود على جهازه لاجتناب هدر الوقت في تصفح غير مجدي.

 

 

ناهيك أن منصة انطلاق الكتاب الإلكتروني أقوى بكثير من منصة انطلاق الكتاب الورقي، فالكتاب الورقي يعتمد على طباعة النسخ المحدودة، وانتظار نفادها من السوق، ثم قد تُنفخ فيه الروح مجدداً أو يموت مع نفاد طبعته، أما الإلكتروني فإنه يسير في الأفق أسرع من النار في الهشيم، ليصل بسرعة إلى قاعدة عريضة من المستفيدين، خذ مثلاً ما فعله الروائي الأمريكي ستیفین كينغ حين قام بنشر روايته (The Plant) في حلقات متسلسلة على موقعه الخاص، وطلب من قرائه أن يدفع كل منهم دولاراً واحداً مقابل كل فصل جديد ينشره، بعد أن قرر أنه إن لم يقُم عدد كاف من القراء بشراء إنتاجه فسوف يتوقف عن نشر باقي فصول الرواية، وبالفعل قام 500000 قارئ بالشراء في أقل من 24 ساعة!([1])

 

قد تتساءل: كيف يتقاضى المؤلفون ودور النشر أتعابهم عن طريق الكتاب الإلكتروني؟ أليست تجارة خاسرة؟!

نعم، تنذر سرقة الكتب وتحويلها إلى النسخ الإلكترونية (PDF) بضياع حقوق المؤلفين ودور النشر، وهذا فيه إشكال شرعي ومهني كبير، في حين يصدّر بعض المؤلفين كتبهم أساساً بالنُّسخ الإلكترونية المجانية، وهذا يخدم اسم المؤلف أو رسالته أو فكرته التي يروّجها، ويقدِّم له منفعة عاجلة أو آجلة لا تقل عن النسبة المادية التي سيتقاضاها من دار النشر لو كانت النُّسخة مطبوعة ورقياً.

 

ثم إن تطور هذا سوق الكتاب الرقمي خلق إمكانية التفاعل الأكثر مرونة بين مُصَدِّر الكتاب ومتلقيه، فالكتب التفاعلية، والنُّسخ المحمية، والطرق الآمنة في سوق الكتب الإلكترونية صارت ضامناً لأصحاب الجهود، فالطريقة التي اعتمدها ستیفین كنغ في نشر روايته - كما تقدَّم - حققت له أرباحاً تقدَّر بـ (600.000$)، وباع من النُّسخ ما يقدَّر بخمسمئة طبعة من الرواية.

 

ختاماً.. وبعد كل ما تقدم.. غريب أنك قد تجد الكتاب الإلكتروني على الإنترنت، ثم تحمِّله في جهازك، ثم تنساه!

ربما لأنك لا ترى نفسك ملزَماً بقراءة كتاب وصلك مجاناً، في حين أنك تلتزم باستثمار ما دفعتَ ثمنه، ولهذا تشتمل المكتبة الإلكترونية الخاصة بنا على مئات وربما آلاف الكتب الإلكترونية، ومعدل القراءة منها ضعيف للغاية غالباً؟!

 

 


([1]) الكتب الإلكترونية؛ النشأة والتطور والخصائص والإمكانات، رامي محمد عبود داود.