في مقالتي السابقة عرضت لحديث عن (الحب.. بين الفضيلة والخطيئة)، ثم قرأت المقال -كعادتي- بعين الناقد، قلَّبت النظر في العنوان، لاح لي في أفق المعاني وجهٌ آخر للحب، يتراوح أيضاً بين الفضيلة والخطيئة، بين الإفراط والتفريط..

 

قبل أن أخوض في عَرض ملامح ذلك الوجه أودُّ أن أسوق حقيقة تتجلى بوضوح في معالم النفس البشرية، وهي أن البشر في معظمهم متطرفون، نعم متطرِّفون، ولا أقصد هنا -طبعاً- التطرُّف السياسي أو القتالي أو الفكري...، وإن كان ذلك كلُّه من التطرف الإنساني، لكني أقصد الرغبة الشديدة عند الإنسان بالبعد عن محور التوازن الحياتي، فلكل شيء مادي ومعنوي طرفان ووسط، والتوسط نادر عزيز، فهذا يتطرف باتباع هوايته على حساب عمله، وآخر يتطرف بمتابعة عمله على حساب أسرته، وثالث يتطرف بإعطاء دراسته جلَّ وقته على حساب واجباته تجاه أسرته أو أصدقائه أو حتى نفسه، ورابع يتطرَّف للرياضة فيصبُّ فيها جلَّ اهتمامه، في حين يتطرف الخامس في سلبيَّته عند نقد هؤلاء جميعاً...

 

وفي ذات السياق.. فإننا غالباً ما نتطرف عاطفياً لنميل كلَّ الميل ذات اليمين أو ذات الشمال، نُبغض تارة حتى لكأن طينتنا 

على البُغضِ جُبِلت، ونُحِبُّ تارة حتى لا نكاد نفرِّق بين الحب والعبودية!

نغضب ساعةً فنلقي فيها كلَّ جميل ممَّن غضبنا منه أو عليه، ونرضى لحظة فننسى جملةَ الدروس التي حرَمتنا النَّوم ذات ليلة...

 

أخي القارئ الحبيب: ما رأيك أن ننظر إلى الجرعة العاطفية من ناحية عقلية! أن ندع للعقل فسحة يُطِلُّ من خلالها على ما يجري في القلب؟! كأنني أسمعك تسأل: كيف ذلك؟! تعال معي نتدارس الأمر، وانظر معي إلى بعض النماذج الحياتية:

هذه فتاة تدرس في السنة الثالثة الثانوية، تشكِّل معلمتُها عندها أنموذجاً للمرأة الناجحة الطامحة، وترى فيها مثالاً يحتذى ونجماً يُقتدى، لذلك فهي لا تسمح لأحد بانتقادها أو التعرُّض لذِكرِها أياً كان الأمر ومهما كان الخطأ!!

لها زميلة في المدرسة لا تروقها هذه النوعية من النساء، تجلس في قاعة الدرس لتتصيد أخطاء تلك المعلِّمة وتتهكَّم وتتبرَّم، وتتخذَ من كل كلمة لها وحركة سبباً للسخرية والاستصغار!!

هذا شاب يشجِّع فريقاً لكرة القدم، يحيِّي كل هجمة يهجمون، ويقدِّس كل هدف يسجلون، ويأخذ بالحديث عن بطولاتهم وإنجازاتهم، بينما يشجع زميله فريقاً آخر، يفعل معه ما يفعل الأول مع فريقه، وفي موسمٍ من المواسم الرياضية يتقابل الفريقان، ويذهب كل منهما يشجِّع فريقه بحضرة زملائه وينتقص من الفريق الآخر، ولما فاز أحد الفريقين على الآخر، تعارك الشباب ووقع ما وقع بينهم!!

هذه ابنة ترى أمَّها مهتمة ببناتها، راعية لزوجها، قائمة ببيتها، صابرة محتسبة على الضيق والمرض، فتنظر هذه البنت إلى أمها على أنَّها رمز للكفاح والصلاح، لا تُخطئ بنظرها ولا تَزِلّ، هي معها على الحق والباطل، تناصرها وتساندها، وتقطع كل لسان يتناولها إلا لساناً يذكُرها بخير!! في حين أنها تستكثر أن تنظر لوالدها ذاك الذي لم يُفلح -بزعمها- في كسب المال الكافي لأسرته، ولم يواجه إخوته الذين سرقوا حصته من إرث والديه، وعجز عن بلوغ ذروة الجاه الاجتماعي التي تحبُّ هي أن تسرَح تحتها وتمرح...، فهي تلقي باللوم عليه في أي ضائقة تصيبهم وأي نازلة تنزل بهم، وتأخذ بالدعاء عليه والهمهمة والتمتمة تأففاً في حضرته!!

ومثل ذلك نرى مصلحاً اجتماعياً أو شخصية دينية يزعم أتباعها أنها بلغَت عتبات العصمة عند أبواب الكمال، وطارت فوق الأهواء والشهوات، يرفعون كعبها عن طبيعة البشر وصفة الإنسانية، في حين يشكك المبغضون بإخلاص هذا الرَّمز ويسوقون الأدلة التي تثبت أنه أنانيٌّ عميل، لا يعمل لغير نفسه ومشروعه وأسياده، ماديٌّ لا يسعى إلا لبلوغ أهوائه وإرواء شهواته!!

ومثله حزب يزعم أنصاره أنه الطريق الوحيد لمجد الوطن وخلود الأمة، بينما يزعم خصومه أنه جِماعُ كلِّ شر وطريق كلِّ فوضى، وأداة لتمزيق ما تملكه الأمة من قيم!!

 

هذه نماذج نراها وأمثالها في الحياة، تعكس داءً متعلقاً بالنفس متراوحاً بين القلب والعقل، يتجلى في صور المغالاة في الحب والبغض، كما تُبرز جانباً من افتقاد الموضوعية في المحاكمات العاطفية، وتضخيم الإيجابيات والتعامي عن السلبيات أو العكس، وذلك نتيجة الاندفاع الشديد مع قلة الخبرة الحياتية، وهذا ما لا يقبله عقل ولا دين!

وبحكم صلتي بالاستشارات الأسرية فإني كثيراً ما أرى حالات تحب فيها الفتاة شاباً، تعظِّم إيجابياته ومؤهِّلاته، وتصيغها بأكثر من صيغة بهدف تعدادها وتكثيرها، علماً أن له سلبيات قاتلة وجوانب مظلمة تتغافل عنها وتضعها في سلة الهامش، وهذا ما قد يدفعُها أحياناً إلى السُّقوطِ معه في بؤر الرَّذيلةِ وأنياب الفاحشةِ، وإلى ضياعِ الكرامةِ والعفَّةِ عند أقدام العاطفة؛ وذَلكَ أنَّها تغالي في حبٍّ أخذَ بشَغافِ قلبِها، وتتجاوبِ معَ معسولِ القولِ، وكذبِ المشاعرِ، من ذاك الذي أغرقَها بثنائِه، وغرَّها بمدحِه، فتقعُ ضحيةً لما استثنت قبلُ من سلبياته القاتلة وجوانبه المظلمة التي تغافلت عنها، فتغدو بعد ذلك متعطشة لثأر لا يروي ظمأها، ولا توفر موضعاً يمكن أن تطعن فيه من أساء إليها لتضع فيه خنجرها، وليس هذا لمحض شرٍّ فيها، بل لعمق الحب الذي زرعته نحو هذا الهدف المزيَّف من قبل.

ولأن الفتيات -بشكل عام- رقيقات المشاعرِ، مرهفات الحسِّ، نرى بعضهنَّ إذا ما أحبَّتْ.. أحبَّتْ بعمقٍ حتى إنها أحياناً تضحي بنفْسِها ومستقبلها وكل ما تملك في سبيل ما تحب ومَن تحب، في حين أنها إن كرهتْ.. كرهتْ بعنفٍ حتى تحرق مكروهَها أو تكاد.

ونراها تتبع السياسة نفسها أو نحوها في تعاملاتها مع قريباتها وزميلاتها ومعلماتها... وليس الشاب عن ذلك ببعيد، وهذا خطأ لا بد من التنبُّه له، فالاعتدال في كل أمر هو ملاك الخير فيه، ولذلك جاء الإسلام بالنهي عن المغالاة، ففي الحديث: «حُبُّكَ الشيءَ يُعْمِي ويُصِمّ». [أبو داود].

ويروى عن علي رضي الله عنه: «أحبِبْ حبيبك هوناً مَا، عسى أن يكونَ بَغِيضَكَ يوماً مَا، وأبْغِضْ بغيضَك هَوناً مَا، عسى أن يكونَ حبيبَك يوماً مَا» [الترمذي].

ويقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (لا يكن حُبك كَلَفاً، ولا بغضك تلفاً، إذا أحببت فلا تكلَف كما يَكلَف الصبي بالشيء يحبه، وإذا أبغضت فلا تبغض بغضاً تحب أن تُتلف صاحبك أو تُهلك) [البيهقي في الشُّعَب].

وذُكِرَ أنَّ عمرَ بنَ الخطابِ رضي الله عنه قال لرجل: (واللهِ لا أحبُّكَ حتى تحبَّ الأرضُ الدمَ)، قالَ: أفتمْنعُني حقّاً؟ قال: لا، قال: فلا بأسَ؛ إنما يأسى على الحبِّ النساءُ.

إنها الموضوعية في الحب والبغض..

 

ختاماً: إن العاقل الواعي هو الذي يتخذ لنفسه حدوداً تمنعه من الإيغال في جانب دون آخر، يعرف تضاريس عاطفته، فيأخذ بقدر، ويعطي بقدر، يؤيد بقدَر، ويعارض بقدَر، يحبُّ بقدَر ويُبغِض بقدَر، يحقق توازناً بين ميله ومشاهداته، بين قلبه وخبراته، ملتزماً محور السداد ونواة الإنصاف، محافظاً بذلك على آماله أن تخيب على أقدام الواقع، وعلى عواطفه أن تسير مع غثاء الزمن.