كنت قافلاً إلى بيتي، غارقاً ببعض الهموم التي يعاني من مثلها معظمنا في هذه الأيام، فلمحتُ شجرة في حديقة إحدى المنازل، اكتست ثوب الزهر المتأنق الفتَّان، فعجبت لزهر الربيع كيف يخرج نضِراً، ويشرق من بين هذا الضَّجيج المفعم بالأكدار، ليخرج أبيضَ كنورِ الصَّباح الذي مسحَته جبهة الشمس وبهجة الإشراق!

نبَّهني الزهر ببهاء طلعته إلى نِعَم نرتع في رياضها دون أن نراها، تحفّنا بأنامل الألطاف دون أن ندركَها، ولو ذهبنا نعدّها لعجَزنا، {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} [إبراهيم: 34]

لكني انتبهت أن مجرد وجود هذه النِّعَم حولنا لا يكفي لإسعادنا، فهناك أمور أعظم من النعمة تحفُّ النعمة وتكتنفها، وتعطيها نكهتها التي تشرح الصدر وتبسُط الأسارير، وتضمن بقاءها والسلامة من المؤاخذة عليها عند المنعم الكريم.

 

خمسة في النعمة.. أعظم من النعمة:

 

أولاً- أن تراها أو تعرفها:

فرؤية النعمة أعظم من النعمة، ومعرفتها كذلك أعظم منها، والشعور بها كذلك! 

 

 

كم عشنا ساعات الصباح شاردين وهو يتنفس من حولنا؟!

كم أخذَنا العمل من أزواجنا داخل البيت وخارجه بعد أن كنا نحلم بالزواج ونسعى إليه؟!

كم شغلنا التلفاز عن ضحكات الصغار التي تبثُّ الروح في بسَماتنا، وعن لمساتهم وهمساتهم وقبلاتهم التي يتحفوننا بها كل حين؟!!

كم من زهرة مررنا بجانبها ولم نلحظ أنها تصطفّ لإبهاجنا في {حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ} [النمل: 60]؟

كم من عصفور لزم الشرفة يغرد ويزغرد.. ونحن نسرد ونشرد غير آبهين لجمالٍ أحاطَنا الله به سمعاً وبصراً، حساً ومعنى؟!

كم غرقنا زمناً في نعم لم نرَها! تجاوزناها لنُمعن النظر في البلايا وزوايا النقص التي كانت تختبئ بين طيات الليالي والأيام، وكأننا كنا نقدِّس النكد ونتعمد التعامي لننشغل عن نِعَم ألفناها، أو لم نرها أصلاً! ما نبَّهنا إليها غير انحسارها وزوالها!

 

 

تخيل أنك الآن أمام ربك؛ يبصّرك نعماً غابت عن ذهنك سنين، يريك حكمته ومصلحتك في أقدار لطالما أزعجتك! تخيل ابتسامتك وهي تغلبك بين يديه حين يبيّن لك بعض الاحتمالات التي لولا لطفِه لطحنتك! لكنه سلّمك، أنعَم عليك وأكرمَك، عرفتَ ذلك أو جهلت، لا بأس، فأنت في الحالين تسرح في ظل فضله!

 

- إن قدرتك على قراءة هذه السطور نعمة، وفهمك لها نعمة، وقدرتك على التركيز فيها نعمة... هل انتبهت إليها؟!

- صحتك، أسرتك، عملك، السقف الذي فوقك، والأوكسجين المحيط بك، قلبك الذي لم يتوقف طيلة حياتك... كلها نِعم، هل انتبهت إليها؟!

أمانك، وسلامتك، مأواك، اعتدال مزاجك، واحتمال درجة الحرارة عندك.. كلها نِعَم، هل لاحظتَها؟!

 

من الأفضل أن تغمض عينيك وتحاول ملاحظتها؛ لأن عدم رؤية النعمة يفوِّت عليك نشوة الإحساس بها، والامتنان لوجودها، فتكون كعدمها، بل ويعرضك لأن ترى النعمة عين النقمة، وكم منا يرى أولاده ابتلاءاً، وشهرته إزعاجاً، ومكانته قيداً، ومحبة الناس له أسراً، ومالَه همّاً، وجماله مَطمَعاً...!

خذها مني: تحسس نِعَمك.. عشها قبل أن تمضي عنك أو تمضي عنها! 

 

يقول ابن القيِّم متحدثاً عن ربه: (رأيتُ أنه قد رباني منذ كنت طفلًا، فإن أبي مات وأنا لا أعقل والأم لم تلتفت إليَّ، فركزَ في طبعي حب العلم، وما زال يوقعني على المهم فالمهم، ويحملني إلى من يحملني على الأصوب، حتى قوم أمري..

وكم قد قصدني عدو فصده عني، وإذ رأيته قد نصرني وبصرني، ودافع عني، ووهب لي: قوي رجائي في المستقبل بما قد رأيت في الماضي.

ولقد تاب على يدي في مجالس الذكر أكثر من مائتي ألف، وأسلم على يدي أكثر من مائتي نفس، وكم سالت عين متجبر بوعظي لم تكن تسيل، ويحق لمن تلمح هذا الإنعام أن يرجو التّمَام) [صيد الخاطر].

 

 

ثانياً - أن تذكرَها وتُظهِرها:

لعلنا نتحرج من ذكر النِّعم وإظهارها احتياطاً من عين حاسد، أو نفسِ طامع، أو نعدُّ إخفاءها نوعاً من إكرامها، وإظهارَها نوعاً من التباهي والتفاخر أو الفرح غير اللائق!

 

 

طبعاً ذكرُ النعمة وإظهارها يكون أمام حبيب أو قريب، ولا يكون أمام حاسد أو فاقد، ويكون للشكر لا للفخر، ليكون ذلك اعترافاً لا اقترافاً، فضلاً لا جهلاً!

 

ذكرُك النعمة هو اعتراف منك بالفضل لمن وهبها لك، هو تذكير لنفسك بهذه النعمة، حتى لا تألفها فيصبح وجودها كعدمه.

ربما لذلك كان عليه الصلاة والسلام يستفتح يومه باستحضار نعم الله عليه فيقول: «اللهم إني أصبحت منك في نعمة وعافية وستر، فأتم نعمتك عليَّ وعافيتك وسترك في الدنيا والآخرة».

وفي الدعاء النبوي: «واجعلنا شاكرين لنعمتك، مثنين بها، قابليها، وأتمها علينا» [أبو داود، وفي رواية الطبراني: «قائليها»].

 

كم أصبحنا على نعمة من الله وفضل - على كلِّ ما نحن فيه -، ولو فتحنا عيوننا قليلاً لرأينا كثيراً ممن حولنا يئنُّون ببلايا أثقل عشرات المرات من بلايانا، ولعرفنا أننا نمتاز عليهم صحةً وسلامة ومالاً وعيالاً، فلنشكر الله بدل أن نتذمر مع عطاياه، «انظروا إلى من أسفل منكم، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم، فهو أجدر أن لا تزدروا نعمة الله عليكم» [مسلم].

 

وقد ورد الأمر بتذكّر النعماء في القرآن الكريم مرات عديدة، فأمر الله تعالى بذلك السابقين: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة: 47]

وأمر بذلك المرسلين: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ} [المائدة: 110]

وأمر بها المؤمنين: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} [الأحزاب: 9]

 

وبعد تذكُّر النعمة أرشد الله تعالى إلى إظهارها وذكرها: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى: 11]، وذمَّ من يكتم النعمة بخلاً: {وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء: 37]، (فالبخيل جَحود لنعمة الله عليه، لا تظهر عليه ولا تبين، لا في مأكله ولا في ملبسه، ولا في إعطائه وبذله...، يستر نعمة الله عليه ويكتمها ويجحدها، فهو كافر لنعم الله عليه). [تفسير ابن كثير].

 

أذكر أن والدي حفظه الله كان إذا اشترى لنا طيب الطعام أحبَّ أن نأكله أمامه، كان يستمتع حين يرانا نأكل من جنى يديه بنهَم وسرور، ومع أني كنت أستحي من والدي حينها، وأتحفظ على رغبته إلا أنَّه أورثني هذه العادة مع أولادي، رحتُ أفكِّر: هل في هذا السلوك خطأ تربوي؟ تذكرتُ أن الله تعالى (ربُّنا الذي يربينا) يسرُّه أن يَرى عبدَه المؤمن يتمتَّع بما امتنَّ به عليه، فهو سبحانه «يُحِبُّ أن يُرَى أثرُ نعمته على عبده» [الترمذي]، ويقول: {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ} [الأنعام: 141]. ويقول: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ} [البقرة: 172]. ويقول: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الأعراف: 32].


وأخرج ابن أبي الدنيا في "الشكر" عن أبي سليمان الواسطي قال: (ذكر النعمة يُورث الحبَّ لله).

جرِّب أن تستحضر نظرة ربك إليك وأنت تتمتع بنعَمه التي تفضَّل بها عليك (مهما كانت بسيطة برأيك)، إن استشعارها نعمة فوق النعمة، وعطاء بعد العطاء!

 

هل قرأت كتاب "المنن الكبرى" للشعراني؟!

 

ثالثاً - أن تعرف المنعم بها:

قد تظن بأن ما أنت فيه من النعمة والفضل هو نتيجة لذكائك، تأتَّى من جهدك وكدِّك وعرق جبينك، وربما من قوة حظك، أو من حُسن طالعك، أو قوة علاقاتك، وقد تظنه من رضا والديك، أو من نتائج طاعاتك...، وربما يتطور ذلك ليسبِّب نسيان مصدر النعمة الحقيقي، وهو محض الفضل والمنِّ الإلهيّ.

 

 

معرفة مصدر النعمة يدفعك لتتأدب مع المنعم، لتبادر لاغتنام نعمه، وشكرِ فضله، وتسأله الزيادة وتعي التقصير، ويكون ذلك محفزاً لك للمضي إليه وإيقاد جذوة محبته، فهو سبحانه وتعالى يتحبب إليك بآيات يذكِّرك فيها بنعمه عليك؛ لتعرف فضله وتبذل شكره، ففي سورة واحدة -سورة النحل- قال ذلك في ثماني مواضع:

- {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا} [النحل:72]

- {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ} [النحل:72]

- {وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ} [النحل:78]

- {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا} [النحل:80]

- {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا} [النحل:80]

- {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا} [النحل:81]

- {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا} [النحل:81]

- {وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ} [النحل: 81]

 

رابعاً - أن تشكرها:

وهذا الرد الطبيعي المنتظر منك حين تقارن النعمة بتقصيرك، حين تراها محض فضل الله عليك، تعجز عن عَدِّه كما تعجز عن حَمدِه.

 

 

شكر النعمة يعني أن لا تكفرها وتستقلَّها، يعني أن لا تراها واجباً لك، وحقاً لك على خالقك! يعني أن لا تتعود على وجودها وتفترض أنها شيء مما يجب أن تحاطَ به في حياتك!

 

يحكى أن عبداً ابتلاه الله بالعمى وقطع اليدين والرجلين، فمر به رجل فوجده يشكر الله على نعمه، ويقول: (الحمد الله الذي عافاني مما ابتلى به غيري، وفضَّلني على كثير ممن خلق تفضيلاً)، فتعجب الرجل من قول هذا الأعمى مقطوع اليدين والرجلين، وسأله: على أي شيء تحمد الله وتشكره؟ فقال له: يا هذا، أَشْكُرُ الله أن وهبني لسانًا ذاكرًا، وقلبًا خاشعًا، وبدنًا على البلاء صابرًا.

 

شكر النعمة أعظم من النعمة لأنه سبيل السلامة يوم السؤال عنها، {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} [التكاثر: 8]. لما نزلت هذه الآية قال الناس: يا رسول الله، عن أي النعيم نُسأل؟ فإنما هما الأسودان! والعدو حاضر، وسيوفنا على عواتقنا! قال: «إن ذلك سيكون» [الترمذي]

 

ومرة وُضِعَ بين يدي النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه طعام، فقال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: «خبزٌ ولحمٌ وتمرٌ وبسرٌ ورُطَب!! -ودمَعَت عيناه صلى الله عليه وسلم-، والَّذي نفسي بيده إنَّ هذا لهو النَّعيم الَّذي تسألون عنه، قال الله جلَّ وعلا: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} [التكاثر:8]، فهذا النَّعيم الَّذي تسألون عنه يوم القيامة»، فكَبُر ذلك على أصحابه، فقال: «بل إذا أصبتُم مثل هذا فضربتُم بأيديكم فقولوا: بسم الله، وإذا شبعتُم فقولوا: الحمد لله الَّذي هو أشبعَنا وأنعَم علينا وأفضَل. فإنَّ هذا كفاف بها». [ابن حبان في صحيحه]

 

واللهِ.. لَنِعمَ الربُّ ربُّنا! يعطينا الكثير ابتداءً، ويرضى أن نشكر كثيره وعظيم فضله باليسير، ثم يطالبنا بالقليل القليل، ثم يكافؤنا على هذا القليل بأضعاف ما امتنَّ به أولاً!!

 

خامساً - أن تحافظ عليها:

بأن تحسن جوارها، «يا عائشة، أحسني جوار نعم الله، فإنها قلَّ ما تزول عن أهل بيتٍ فكادت أن تعود إليهم» [الطبراني في الأوسط].

وأن لا تعرضها للزوال بكفرها ونكرانها، {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم: 7].

وأن تحسن علاقتك بالله حتى لا تعاقب بتحويلها إلى غيرك: {كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ * فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ} [الدخان: 25 - 29]

 

 

هل اطلعت على مشاريع وجمعيات "حفظ النعمة" في البلاد العربية والإسلامية ؟

 

هذه خمسة في النعمة رأيتها أعظمَ من النعمة:

أولاً- أن تراها أو تعرفها

ثانياً - أن تذكرَها وتُظهِرها

ثالثاً - أن تعرف المنعم بها

رابعاً - أن تشكرها

خامساً - أن تحافظ عليها