مقدمة


نحن أمة نص، وأمة تؤمن بالغيب، ولا سبيل للإيمان بالغيب بغير النص، والجن من الغيب، والسحر مرتبط بالجن، فالحديث عن السحر حديث عن مغيَّب - عقدي له آثار فقهية -؛ له آثار في الواقع المشهود تمس الجسد والعقل والنفس، ولا طريق للسلامة في الحديث عنه إلا بالرجوع إلى النص. 
هذا، ومن الخطأ جرّ القضايا الغيبية إلى دائرة العقل، ومحاولة الاستدلال عليها والتبرير المنطقي لها، فالإيمان بالغيب هو تابع للإيمان بالله، وبرسوله، وبكتابه، ثم بعد أن يؤمن الإنسان هذا الإيمان يكون من السهل عليه الإيمان بما جاء في كتاب الله وعلى لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم.

 

السحر في الكتاب والسنة:


أدلة وجود الجن في القرآن الكريم واضحة، أن الله خلقهم، وخاطبهم، وأوحى إليهم، وسخّرهم لنبيه سليمان عليه السلام، وعَمِل قوم فرعون بالسحر، وقصة هاروت وماروت، وأفرد القرآن الكريم سورة باسم الجن، وورد ذكرهم في أكثر من مائة موضع في كتابه.  
وفي الحديث الشريف أيضاً تتوافر الأدلة على أنهم موجودون، ويأكلون بشمائلهم العظم، والبعر لدوابهم، مخلوقون من نار، وأن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، ويبول بأذن النائم عن صلاته... 
لذلك قال الخطابي: (نفي السحر جهل، والرد على من نفاه لغو وفضل).

 

هل السحر حقيقة أم خيال؟ 


اختلف العلماء في أن السحر هل له حقيقة ووجود وتأثير حقيقي في قلب الأعيان، أم هو مجرد تخييل، فقال أهل السنة: من السحر ما هو حيل ومخرقة وتهويل وشعوذة، وإيهام ليس له حقائق، ومن السحر ما له حقيقة، بدليل: {يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ} [البقرة: 102]، وقوله: {وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ} [الأعراف: 116]، وقوله: {يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} [البقرة: 102] ولا يمكن تعليم ما لا حقيقة له. 
وقال المعتزلة وأبو بكر الرازي "الجصاص" الحنفي، والبغوي الشافعي، ونقل عن الحنفية أنه لا حقيقة له، وأن جميع أنواع السحر في الحقيقة تخييل من الساحر على من يراه، وإيهام له بما هو خلاف الواقع، فالساحر لا يستطيع بسحره قلب حقائق الأشياء، وقالوا بأن السحر لا يضر إلا أن يستعمل الساحر سماً أو دخاناً يصل إلى بدن المسحور فيؤذيه، بدليل قول الله تعالى: {سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ} [الأعراف: 116]، وقوله: {فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} [طه: 66]. 


والصحيح أن السحر قد يكون له حقيقة ووجود وتأثير في الأبدان، وبذلك قطع الجمهور، وهذا رأي عامة العلماء، ويدل عليه الكتاب والسنة الصحيحة المشهورة - كما قال النووي -، ومنه ما يُمرِض، ومنه ما يقتُل، ومنه ما يأخذ الرجل من امرأته فيمنعه من وطئها، ومنه ما يفرِّق بين المرء وزوجه - كما قال ابن قدامة -، ومنه ما يؤثر على المزاج... 

 

كيف أتحصّن من السحر؟ 


يمكن التحصن من السحر بالخطوات الآتية: 
1-    الابتعاد عن المعاصي، والتزام الطاعات، فالطاعة قوّة لصاحبها، حصانة له. 
2-    كثر ذكر الله، فالشياطين لا تقوى على العبد إلا في حال غفلته ومعصيته. 
3-    قراءة القرآن: وخاصة: (الفاتحة، البقرة، آية الكرسي، أواخر البقرة، المعوذتان).
4-    الدعاء: وفي الحديث: (دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم دعا، ثم دعا) وهذا يوم سُحر. 
5-    الرقية الشرعية، وشروطها: 
‌أ.    أن تكون بكلام الله أو أسمائه أو صفاته.
‌ب.    أن تكون بما يُعرَف معناه للسامع (وليست طِلَّسماً).
‌ج.    الاعتقاد بأن الشافي هو الله وحده، لا الراقي ولا غيره من الخلق.
‌د.    خلو الرقية من الشركيات، ومن المخالفات الشرعية (كالخلوة بين الجنسين، والمس بين الأجانب، والنظر الحرام، وادعاء معرفة الغيب...) .

 

ختاماً: قناعات ضرورية: 


1)    السحر كبيرة، وعمله محرم بالإجماع، وهو من السبع الموبقات، وهو مما يضر ولا ينفع {وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ} [البقرة: 102]، وعلم النجوم شعبةٌ منه، وليس من السحر ألعاب الخفَّة وما يُتعجّب منه من اللهو المباح، فهذا غير مذموم، وتسميته سحراً على التجوز، أو لما فيه من الدقّة - كما قال البيضاوي -. 
2)    في قضية السحر مطلوب منا أن نتوازن، فلا ننكر السحر جملة، ولا نسرف في تضخيم دوره وإضافة ما يتفق مع عمومه من خيالات وأوهام. 
3)    الإنسان هو المسؤول عن أعماله، فلا يبرر أخطاءه بسيطرة الجان، ولا يتذرّع بالسحر لإسقاط خطئه وتقصيره ونقصه.
4)    السحر الذي أصيب به النبي صلى الله عليه وسلم على يد لبيد بن الأعصم كان متعلقاً بعلاقته بزوجاته فقط، ولا أثر له على عقله، ولا على رسالته (الوحي)، وإنما كان يخيّل إليه في أمر زوجاته كما خُيّل إلى موسى {مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} [طه: 66]، ومن أهل العلم من توقَّفَ في ما ورد من ذلك.
5)    لا أثر للسحر بغير إرادة الله سبحانه، وفي الحديث: (لا يدخل الجنة مدمن خمر، ولا مؤمن بسحر، ولا قاطع رحم) أي: مؤمن بتأثير السحر دون إرادة الله {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة: 102]. 
6)    قد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء، فالغيب لا يعلمه إلا الله، و(من أتى عرافاً أو كاهناً فصدقه فقد كفر)
7)    قدرة الجن على بعض الأمور لا تعني القدرة المطلقة في الكون، فلا قدرة ولا قوة فوق قوة الله وكلامه، ولا ينبغي الإفراط في التوهم من السحر وجعله هاجساً مخيفاً يطال كل مفردات الحياة.